نافذة... الأمل

عباقرة الجمال

تصغير
تكبير
شارع «غراسيا» في برشلونة، حيث الجمال يتلألأ اينما وجهت ناظريك، ويحفز مقلتيك لتتسع أكثر، فترتوي من فنون العمارة المبهرة، والتاريخ الشامخ الذي يزين أطراف الطرقات والميادين، ويغذي قلبك وينشط عقلك، ويطير بك إلى حياة اخرى تؤكد لك مقولة الكاتب توماس بيلي: «كل شيء جميل لا يموت، بل ينتقل جماله الى شيء آخر».

كانت عرائس شارع «غراسيا» تلك البنايات المطعمة بروح الطبيعة لعبقري الهندسة انطوان غاودي، وقد فاجأتنا عبقريته عندما علمنا أنه لم يكن من المتفوقين في دراسته، لكن معرفته كانت ثرية ومتنوعة في مجالات متعددة، فهو درس الفرنسية، التاريخ، الاقتصاد، الفلسفة، علم الجمال، كما أنه كان يدمج في تصاميمه مجموعة من الحرف التي كان يتقنها مثل الخزف، السيراميك، الزجاج الملون، وقدم تقنيات جديدة في معالجة المواد، مثل بعض انواع الفسيفساء التي تدعى Trencadis.

رأينا، في بناية «باتلو» لغاودي، الشرفات تشبه أقنعة حيوانية، والأعمدة تشبه أقدام الفيلة، وبعض المشربيات تشبه أعشاش العصافير، وغيرها من التفاصيل التي تشعرك بأنك تشاهد غابة معلقة، وفي الشارع نفسه تجذبك بناية أخرى تحمل أفكاره غير التقليدية، بناية «بيدر يرة»، حالة من تناغم الطبيعة مع العمارة أو تزاوجهما، حتى انك تحتار، هل أنت تشاهد منظرا طبيعيا، أم مبنى معماريا!

اما «بارك غويل» الذي استمر في بنائه أكثر من عشرين عاما، على مرتفعات برشلونة المطلة على البحر، التي تحتوي على كل انواع الاشجار والكثير من الاعمدة الحجرية المدعومة بالباطون، التي تشبه جذوع الأشجار وأغصانها، وتحمل سقوفا تشبه الشرفات المنصوبة في الهواء الطلق، كل شيء في هندسة «غاودي» يعود الى الطبيعة ملهمته الاساسية، وعشقه الأول، حتى تحفته الفنية «ساغرادا فاميليا» (الكنيسة المقدسة) فهي بناء يختصر فنونا في تاريخ البناء الكاتدرالي، وتظهر شغفه الكبير تجاه العمارة والطبيعة والروحانيات الدينية، فقد تتميز بالمسلات التي تتوج بالطيور، التي استمر استكمال بنائها حتى الآن، أي بعد 90 عاما على رحيل واضع بذورها الفنية الأولى، وليؤكد الجانب الإيجابي من نبوءة مدير مدرسة الهندسة المعمارية عندما سلم شهادة الهندسة لغاودي وقال له: «لقد اعطينا هذا اللقب الاكاديمي إما لأحمق او لعبقري، سيظهر الزمن ذلك»!

برشلونة زاخرة بأبنائها المبدعين، على جميع المستويات، تجعلك تسابق الوقت لتسترق المتعة في زيارة معالمها ومتاحفها، ومن أبنائها النجباء في الفن التشكيلي، وقد اسعدني الحظ بزيارة متحفه، «بيكاسو»، أحد اشهر الفنانين التشكيليين في القرن العشرين، مؤسس الحركة التكعيبية. ما ميز متحفه موقعه في منطقة قديمة، وسط المدينة، في شارع ضيق، لكن البيوت التي تجاورها مكللة بالورود، لتخبرك بأن الجمال تواصل وثقافة، لا يكون في الفخامة فقط، انما ينبع من كل دروب الحياة، ومن الذوق الرفيع في أي اتجاه. فأينما تتجه في المدينة كأنك تتلقى رسالة مبطنة تحثك على مشاهدة كل جوانب المدينة.

المتحف بانوراما لأعماله، التي يختصر فيها حقبات من فنون العالم، وتمثل مراحل مختلفة من حياته الفنية الزاخرة بالمفاجآت والتحولات وتنوع الاسلوب. عندما شاهدت كل هذا الثراء تذكرت مقولة بيكاسو «الرسم طريقة أخرى لكتابة المذكرات»، وقد كتبها حقا بأسلوبه!

لكن الوضع يختلف في متحف «خوان ميرو» أشهر فناني المدرسة التجريدية حيث المكان المرتفع فوق تلة «مونت جويك»، وحيث لوحاته السريالية تشع بالألوان الزاهية المشرقة. يقول النقاد إن ذلك يعود لتأثره بدول أميركا الوسطى التي سافر إليها كثيراً، فأحل ألوانها الزاهية والمتضادة والقوية، وقد اختزل من أحلام الطفولة وخيالاتها الكثير من الرموز والعلامات. أعجبتني كثيرا ضربات الأسود في مساحات البياض الواسعة، او إيقاعاته في مساحات ألوان اخرى كالبرتقالي، الأحمر، أو الأخضر، لتشعرك بجمال الأسود المختلف في كل ضربة ومع كل لون. يمكن للزائرين أن يحملوا اللوحات معهم، ولكن بشكل آخر من خلال الهدايا التذكارية، المطبوعة عليها لوحاته!

في الحقيقة برشلونة من المدن الساحرة المتنوعة، التي تجذب الكثير من الاذواق، وإذا كانت اسبانيا من أوليات الدول السياحية في العالم، وقد بلغ عدد السياح سنة 2015 الى 68.1 مليون زائر بحسب ما كشف المعهد الوطني للإحصاءات «أي ان أي»، وتشكل السياحة 11 في المئة من دخلها... فإن «برشلونة تأتي في المقدمة سياحياً. فهناك لا تشعر بالغربة من تعدد جنسيات السائحين، بل كأنها موطن التعدد، الكل يتحرك ليرشف نصيبه من المتعة، على أمل أن يشبع عطش روحه للجمال... فتحية لأعلام برشلونة المبدعين الذين زينوا المدينة والعالم بفنونهم»... تحية لهم بالإسبانية «أولي... أولي».

* كاتبة كويتية

Amal.ramdy@yahoo.com
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي