مثقفون بلا حدود / مصداقية العفو والتسامح

تصغير
تكبير
إن مصداقية العفو ليست بالعفو أو المسامحة؛ فكلنا قد يعفو ويسامح، ولكن تظل في القـلب نقـطة ســوداء، أو رمـادية اللـون. لا تـريد التعـامـل مـع من نسـامـح أو مـن نعفــو عنـه، ولكن مصـداقيــة العفــو هـي: أن نسـامـح ونعفـو ونتـصـافـح؛ لكـي نزيـل هـذه النقطـة السـوداء، ونمحــو آثـار اللـون الرمـادي، ليحــل محـلـها اللــون الأبيــض الناصع البياض، قلوب طاهرة وصافية ومطمئنة وراضية ومرضية بحكم الله وقـدره...

«جاءت أم حكيم امرأة عكرمة بن أبي جهل وهو من أشد الناس عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، جاءت فقالت للنبي: يا رسول الله، قد هرب عكرمة منك إلى اليمن وخاف أن تقتله، فأمنه. قال: هو آمن. فخرجت أم حكيم في طلب زوجها حتى أدركته فقالت: أي عكرمة ! قل لا إله إلا الله ولا تهلك نفسك. فأبى وقال: ما هربت إلا من هذا!. قالت: على أي فقد استأمنت لك محمدا. فرجع معها. فلما رأى النبي- صلى الله عليه وسلم- عكرمة وثب إليه فرحا بعكرمة وقال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: لا تسبوا أباه، فإن سب الميت يؤذي الحي ولا يبلغ الميت. قال عكرمة مشيرا إلى زوجته: يا محمد، إن هذه أخبرتني إنك أمنتني. قال النبي: صدقت، فأنت آمن. قال: فإلام تدعو يا محمد؟ قال: أدعوك إلى أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وأن تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتفعل وتفعل، حتى عد خصال الإسلام. فقال عكرمة: والله ما دعوت إلا إلى الحق وأمر حسن جميل. ثم نطق بالشهادة. فقال النبي: لا تسألني اليوم شيئا أعطيه أحدا لا أعطيتكه. قال: فإني أسألك أن تستغفر لي كل عداوة عاديتكها أو حرب لقيتك فيها أو كلام قبيح قلته في وجهك أو وأنت غائب عنه. قال النبي: اللهم اغفر له» وبهذا يرسم لنا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم طريقا صحيحة لمجتمع إسلامي حديث ومعاصر قوامه ( العفو عند المقدرة).

يقول فضيلة الشيخ الفلسطيني عكرمة صبري «قد يتوهم البعض أن التسامح يأتي عن ضعف واستكانة واستسلام! وهذا توهم خاطئ مغاير للحقيقة، فالتسامح ينطلق من القوة والمقدرة، وكما هو معلوم ومعروف أن العفو يكون عند المقدرة، والله سبحانه وتعالى يقول:» وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين «(الشورى: 40 )،ويقول عز وجل:» ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور «(الشورى: 43 )؛ فالذي يعفو ويصفح يكون قوي العزيمة ضابط الأعصاب كاتم الغيظ، ويقول رب العالمين:».. والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين «(آل عمران: 134 )؛ فالقرآن الكريم يشجع على العفو والصفح والمسامحة فيما بين الناس في عشرات الآيات الكريمة. ولا تخلو آية كريمة تتضمن عقوبة إلا وفيها حث على العفو والصفح والمسامحة»ا.هـ

لا يملك المرء منا السيطرة على جوارحه، فالنفس أمارة بالسوء، ومن حب الله فينا ورحمته أن وضع فينا ثلاث نفوس، فهناك النفس الأمارة بالسوء، يختبر فيها الإنسان ويعرف مدى قدرته في ضبط النفس و السيطرة عليها، فهو في صراع مع وسوسة الشيطان ومع ملذات الدنيا ومع الدمار والخراب وزرع الفتن وبث الحقد والكراهية، والحسد والغيرة، وهذه النفس تصارعها النفس اللوامة وهي الضمير الصادق في الإنسان، هي التي تؤنبه إذا انحرف وقصّر، وتعنـّفه وتعيده إلى صوابه ليكون مواطنا صالحا لنفسه ولأهله ولبلده، بعد هذا الصراع الدامي بين النفس الأمارة بالسوء والنفس اللوامة، يأتي الحق تبارك وتعالى لينتشل عبده بالنفس المطمئنة، وهي إنسانية عالية خصّ بها الله عز وجل الإنسان المسلم المؤمن الذي يرجع إلى الله عز وجل؛ ليحتضنه برحمته ومغفرته وعفوه ويتوب عليه وينقيه من الآثام، ويطهره من النفس الشريرة ليضع مكانها نفسا آمنة مستقرة مطمئنة في كنف عفو الله وتوبته ومغفرته، فجاء القرآن بآيات التوبة والمغفرة ليـقـرّ مبدأ التسامح والرحمة، و لتربية المجتمع المسلم على المصالحة مع النفس أولا، وتقبل بعضنا بعضا ثانيا، وعلى شفافية الحوار ومصداقية العفو.

تحضرني حادثة جاهلية كنت قد قرأتها منذ الدراسة الجامعية، في كتاب أيام العرب الجاهلية، وبالتحديد تلك الحرب الملعونة المسمى بحرب البسوس، التي دارت رحاها بين أبناء العمومة (تغلب وبكر) واستمرت 40 عاما تقريبا. 40 عاما استطاع حكيم قبيلة بكر وفارسها الشجاع الذي يقدر بأربعين رجلا وهو الحارث بن عباد أن يعتزل هذه الحرب، ولم يشأ المشاركة فيها، وهو يرى ويسمع يوميا عن القتل بين القبيلتين والتي كانت الكفة ترجح في كثير من الأحايين لبني تغلب على قومه بني بكر، قتل وسبي وتشريد ومطاردة. حرب خلفت أيتاما وأرامل، والحارث بن عباد لم يحرك ساكنا تحت ذريعة العقل والحكمة بعد أن عجز عن إقناع القبيلتين بعدم القتال وضرورة حقن دماء العرب، ومراعاة صلة القرابة والنسب والدم، وبعد أن قتل عدي بن ربيعة الملقب بـ «الزير سالم» أو «المهلهل»، ابن الحارث بن عباد وهو جبير، وكان ابنه الوحيد الذي نأى به عن جميع الحروب الدائرة بين القبيلتين، إلا أن الله سبحانه وتعالى أراد أن يقتل على يد «المهلهل»، هنا غضب الحارث بن عباد بعد أربعين سنة من العقل والحكمة والحياد انتزعت نفسه الخيرة وحلت نفس شريرة محلها، قادته للانتقام وسفك الدماء وقد كان له ذلك، هذه النفس الشريرة التي تملكت الحارث بن عباد كانت تشحن يوميا بواسطة السماع لما يقوله «المهلهل» من هجاء في حق الحارث بن عباد ويفتخر بقتل ابنه جبير، حتى انتزعت هذه النفس الشريرة كل خصلة طيبة في إحساسات ومشاعر ووجدانيات الحارث بن عباد، وسيطرت عليه روح ناقمة غاضبة تواقة للقتل، وتملكه نفس بغيض يريد إراقة الدماء، وقد كان له ذلك ودخل معركة مع «المهلهل» وانتقم لابنه جبير القتيل.

يقول الحق سبحانه وتعالى:«... ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو...» ( البقرة: 219 ).

* كاتب وباحث لغوي كويتي

[email protected]
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي