قصة قصيرة

المصيبة

تصغير
تكبير
علا دخان سكراته وراح يتصاعد إلى السقف على شكل دوائر متتالية، وظهرت على وجهه المتعب ملامح ومأساة قصة مملؤة بالمعانات والآلام .احتضن كل الأوراق التي بين يديه وضمها إلى خاسرته وتسربت إلى جسده لحظات خوف ممزوجة بالقلق:

- إنا لم...افعل شيئا... لا... لا... تضربوني


لم يكن أحدا بجواره قطعيا سوى المنضدة التي ركنها جانبا وجلس مادا قدميه إلى الإمام... كأنه بجلسته هذه أراد التعبير عن تعبه وألمه الذي يأكله من الداخل، وتلبيه لمشاعره التي تبين انه مصاب بإمراض عديدة... وبحركة عشوائية من يديه سقط قدح الماء الذي كان موضوعا على طرف الطاولة. لم يأبه بما فعله بل كان يود إن يدس جسده في إي مكان حتى يتخلص من الأنظار... مختبئا من شيء يخافه أو حدث يود الهروب منه أو سرا مضموما داخل صدره .اقترب له عامل المقهى:

- استرح لن ادع إي شخص يقترب منك او يؤذيك؟

لما سمع ماقيل له وكأن السكينة والطمأنينة عمت الجسد بأكمله وانتشرت الابتسامة فوق شفتيه وأجاب:

- إذن أعطني... شايا بلا سكر

تابع قوله عامل المقهى بهدوء:

- أنت تأمر أمر يابو حسان الطيب

غاب عن نظره بينما تمعنت في حركاته المبهمة ورعشة يداه المتعاقبة بين آونة وأخرى جعلتني أتمعن في هيئته التي أتحدث عنها ألان .لم يتجاوز عمرة الأربعين فوجهه المدور قد استقرت عليه عينين زرقاويتين جميلتين واختط شاربيه الرفيعتين فوق فم صغير اصطف بداخله أسنانه التي لم تكن بيضاء بل اصفرتا من جراء عدم الاعتناء يهما أما شعر رأسه داكنا اسود ولحية بيضاء كثيفة وطويلة لم يرتبها أو يكن مهتما بها ..آه لاارى ماكان يرتديه من ملابس لأنني لم انته له حتى هذه اللحظة .قميصا ابيض انتشرت البقع عليه من جراء سقوط بقايا الطعام عليه وسروالا اسود كان لونه يقاوم كل المتغيرات التي تطرأ عليه انه لم يعد يقوى على الجلوس والتركيز في إي شيء حوله كان يتحرك باستمرار وعلى الدوام. قررت ان أرى ماكان يرتدى بقدميه فاخفضت راسي إلى الأسفل قليلا فوقعت أنظاري على «شحاطته» السوداء الممزقة والمتآكلة من الأسفل... فقد أكلها «قير» الشوارع التي كان يمشيها. للحظة انتبهت على عامل المقهى واضعا الشاي أمامه ومخاطبا إياه بتوسل

- تفضل...

أجابه بتودد

- أشكرك ...

لعله أحس بالأمن والهدوء من كل الجالسين ومنهم أنا فقد نظر لي من بعيد بعينين هادئتين، وحاول إن يجد مستندا يتكئ عليه في ضيعته التي غرق فيها. قلت له وبابتسامة:

- صلي على محمد ألف الصلات والسلام عليه وعلى أهل بيته الطيبين الإبرار... الدنيا منتهية... وكل شيء فوق التراب تراب... لاتعذب نفسك... الدنيا منتهية؟

تلاقت نظراته بنظراتي وقال

- كيف تنتهي... أبهذه الحالة؟

فتح ازرة قميصه وظهرت لعيني آثأر التعذيب... من سياط ورجات كهربائية قد استقرت على جسده. لم ارفع بصري عنه بل بقيت ساكتا لم أتفوه بكلمة واحدة لكني في النهاية قلت له:

- أعانك الله... وأعطاك الصبر والثبات على الدرب المستقيم... ولك الحق لخوفك الدائم.

ترك قميصه مفتوحا واخذ يرتشف الشاي ببطيء ونظراته تتنقل بين ارجاء المقهى، وكأنه حال إي شخص يدخلها لأول مرة. شاركته في هذه الجولة المكوكية عسى إن اخفف عن مصيبته التي يعاني منها، بينما جدران المقهى ممتلئة بإعداد من الصور ...انها متنوعة ومختلفة تدل على أن صاحب المقهى كان رجلا لايميل لأية جهة إن كانت حزبية أو دينية من خلال اختياره لما علق على الجدران... فجاءه ومن دون سابق إنذار وقف فوق الأريكة المحطمة بعض الشيء وراحت يديه تمرّ على الجدار وشهق بالبكاء مثل النسوة عند موت عزيز لهن. رفع قامته متهاويا وقبّل صورة صعب في البداية أن اعرف لمن إلا إن سقوطه على الاريكة سمح لي بالتأكيد أن أراها عن قرب أنها للسيدة أم كلثوم سيدة الغناء واسمعه يردد ويقول:

- كل شيء ضاع مني بلمحة بصر ...الله واكبر.

عدت لأسأل نفسي لماذا يفعل هذا الرجل بنفسه هكذا؟ وما المصيبة التي حلت به... وما حكايته، التي تبدو بالنسبة مبهمة، كون الكل لم يبد له اهتماما ولو بسيطا. ربما لعلمهم به.... كنت أتطلع لوجهه وقد امتلاء بالدموع... بلى لقد انتزع روحي من جسدي وانا أعيش مع إنسان حقا أراه لأول مرة لكني اشعر بأنه دخل قلبي وأعماقي وصرت كلي شوق لمعرفة أدق التفاصيل عنه وما جرى له اقتربت إليه مستفهما منه بصورة مباشرة قائلا:

- اهكذا تفعل بنفسك ياابا حسان؟

تقطعت نبرات صوته وأجاب بصعوبة بالغة:

- ماذا افعل بالحظ والنصيب؟

- احمد الله واشكره مازلت عندك العائلة وحسان... وأنت في مقتبل العمر الحقيقي.

أجابني وكأني صفعته على وجهه قال بعدها:

- إي عمر وأي مقتبل؟

- حدثني إذن عسى أن أساعدك؟

لم يجبن بكلمة واحدة وكان الموعد المحدد قد انتهى... لملم كل أوراقه المبعثرة من حوله وترك نظرته الأخيرة لي بالذات وابتسم قائلا:

- أنها... مصيبة... المصيبة!

وقف عامل المقهى إمامي وقال:

- الله بعونه فقد سقطت قذيفة مجهولة المصدر فوق بيته واستشهد جميع من في البيت حتى طفله الرضيع الذي انتظره بفارغ الصبر ولسنوات طويلة قد استشهد.

تقطع قلبي ألما وحسرة وسيطرت عليّ الدهشة والهدوء، ودبت السكينة بأرجاء المقهى، وأنها فعلا مصيبة كبرى ولو أنها إرادة الله سبحانه وتعالى، لكن الأسباب غير المعلومة جمعت كل وريقاتي الصغيرة وقررت ألا ادون ما اردت تدوينه بكتابات مبسطة.

سحبتني قدماي الثقيلتان إلى منتصف الشارع وأنا مازلت أفكر بقوله واردده بألم

- مصيبة... أنها حقا مصيبة!
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي