مشاهد / أمين ريان: استغنوا تُبدعوا

يوسف القعيد


في حياة كل إنسان أعمال أدبية خالدة قرأها في مرحلة مبكرة من حياته وأُعجب بها وقت قراءتها.
ودفعه هذا الإعجاب كي يصعد بها لعنان السماء. لكن مع تقدم العمر ربما تبخّر هذا الإعجاب. ويكتشف عندما يعود لقراءتها بعد سنوات أن لذته القديمة، كان فيها قدر من المبالغة، ناتجة عن اندفاع الشباب، وأن عدم استمتاعه في القراءة الأخيرة قد يكون سببه تروي الكهولة. ورغبة الكهل في ألا يُخضع نفسه لنزوات الشباب. فكل زمن في حياة الإنسان له أذواقه التي تختلف من فترة لأخرى، بل ربما تناقضت بين زمن وزمن.
أعترف أن رواية: «حافة الليل»، للروائي الرائد أمين ريان. كانت استثناء من هذه القاعدة. فعندما قرأتها مع بداية سنوات الكهولة بعد لقاء الشاب الذي كنته قبل سنوات، اكتشفت في النص متعة جديدة. ربما تتفوق على الإحساس القديم بالمتعة، لأن متعة الوعي والإدراك وخبرة السنين قد تكون أفضل من متعة الشباب الأول.
قراءتها الأولى كانت اكتشافا لأرض بكر في الكتابة الروائية العربية. علاقة حب من النوع النادر بين فنان ورسام وموديله «أطاطا»، بل إن اسم البطلة أطاطا.. ظل يطاردني حتى في أحلامي. فعلاوة على نُدرة الاسم واختيار الأسماء مشكلة بالنسبة لأي روائي، خصوصا التوصل لاسم لا وجود له بكثرة. فإن أطاطا يظل اسما له طزاجة وبكارة من نوع خاص.
بعد القراءة الأولى بسنوات، فكرت أكثر من مرة في سؤال، عمّنا أمين ريان، عن أصل هذه الشخصية في أرض الواقع. لأن أي شخصية يبدعها الروائي في نصوصه الروائية لا بُد أن لها أصلا في الواقع. مهما كان هذا الأصل شديد البُعد عن الصورة التي ظهرت بها الشخصية في الرواية.
أعترف أنه لايزال لهذا النص ريادته وطزاجته وبكارته الأولى. إن إعادة نشر هذا النص بعد هذه السنوات الطويلة، وبعد أن وصلت الأمور في بر مصر لتحريم «الموديلز» العارية أو شبه العارية في كليات الفنون المصرية، لأسباب كثيرة يطول شرحها، فربما كانت مصر من الدول القليلة التي تحنُّ للعودة للماضي في بعض الأحيان.
مع العلم، أن هذا الماضي قد يكون أكثر جمالا من الحاضر. وأكثر بهاء من المستقبل الذي يمكن أن يخرج من رحم هذا الحاضر. هذا النص قادر على أن يستصرخنا، ويقول لنا: انظروا يا أهل مصر، كم كانت مصر أحسن وأجمل وأكثر بهاء، قبل سنوات قليلة.
أعترف أنني سعدت بإصدار هذه الرواية الرائدة من جديد. عن دار الشروق، ضمن سلسلة جديدة. هي سلسلة: نصوص متميزة. وهي سلسلة تعني بنشر النادر أو المنسي من الأدب المتميز والممتع الذي شكّل علامات مهمة في سيرة الأدب العربي الحديث. وأمين ريان هذا الفنان الشامل يكتب ويرسم، ويتابع الحياة الثقافية بكل دقة ودأب. مولود سنة 1925 وتوفي 2014 عن 89 عاما.
وكان ميلاده في حي روض الفرج. وعاش مع رفيقة عمره وشريكة حياته في حي الزيتون. «وبيته يقع بالقرب من ورشة الزيتون الإبداعية» التي انطلقت منها ثورة في متابعة الجديد في الثقافة المصرية والعربية والعالمية لم تحدث من قبل، وقام عليها الشاعر والمثقف شعبان يوسف.
نعود لأمين ريان ونقول، إنه دارس للفنون الجميلة، وروايته المهمة التي يمكن اعتبارها رواية عمره: «حافة الليل».. مكتوبة سنة 1945. لم تُنشر إلا سنة 1954. توجد معلومة مناقضة لهذه المعلومة في كتاب تذكاري، صدر عن الثقافة الجماهيرية، عن أمين ريان، أعده سيد الوكيل، وجاء في ببلوجرافيا القصة والنقد والأيام في حياة أمين ريان. للدكتور سيد نجم، إن رواية حافة الليل مكتوبة سنة 1948، وصدرت على نفقة الكاتب سنة 1954. فأي المعلومتين أدق؟!.
من المعلومة الأولى نفهم أن أمين ريان كتب الرواية وهو في العشرين من عمره، ولكن من الثانية يُفهم أنه كتبها وهو في الثالثة والعشرين من عمره. وفي أحد أحاديثه في الكتاب التذكاري، يعترف أمين ريان لسامي إسماعيل أنه كتب الرواية وعمره ثلاثة وعشرون عاما. إذن فمعلومة كتاب هيئة قصور الثقافة أدق من المدوّن على غلاف الطبعة الجديدة من الرواية. والرواية مكتوبة بضمير المتكلم «أنا» الذي يقيم مسافة من الإنسانية، بين البطل الراوي وبين القارئ المتلقي. إن الرواية الجميلة تبدأ هكذا:
- أتاحت لي إدارة الفنون الجميلة فرصة تقديم مشروع إتمام الدراسة مرة أخرى.
في آخر الرواية، ثبت ببعض المقالات التي كتب عن حافة الليل، حافة الليل أم درج الصباح للدكتور سيد البحراوي شفاه الله من مرضه وأعاده لنا مرة أخرى، ثم دراسة النقاد وحافة الليل، للدكتور مجدي أحمد توفيق.
وفي الدراسة، رصد يصل لحدود الذاكرة لما كُتب عن هذه الرواية في الصحافة المصرية. منذ صدورها حتى لحظة كتابتها، ثم: أمين ريان في بيته لسيد الوكيل. وفيه دراسة عن الحي الذي نشأ فيه أمين ريان، وأثّر فيه، بل ومهنة والد أمين ريان في المعمار. والأثر الذي تركته في إبداعه، وحوار أجراه مع المؤلف يسري حسان: أمين ريان. «استغنوا تُبدعوا».
وهي نصيحة خطيرة ومهمة، أتمنى أن تدركها الأجيال الجديدة، بل لا أغالي في القول عندما أقول أتمنى أن يضعها في الاعتبار جيلنا نفسه، أو من تبقى من جيلنا. فالاستغناء كلمة السر التي صنعت الكُتَّاب الكبار، منذ أساتذتنا الذين تعلمنا على أيديهم، حتى جيلنا والأجيال التي جاءت بعدنا.
كتبت من قبل في إحدى رواياتي، إن الحرص نباتٌ سام، وأقول إن الحرص والرغبة في الحصول على كل شيء مشكلة المشكلات بالنسبة للمبدع، لأنها تشغله عن مشروع عمره الأساسي ألا وهو الإبداع... أمين ريان عندما كنت أشاهده ومعظم لقاءاتنا تمت في ورشة الزيتون الإبداعية، أشعر أنه غسل نفسه من أدران الدنيا ومن أطماعها الكثيرة، ومن يتمكن من هذا بطل بشكل ما. وأمين ريان من الأبطال الاستغنائيين عن كل ما في الدنيا.
إنها ليست مجرد إعادة طباعة لنص جميل، بقدر ما هي احتفال من نوع نادر لمبدع مصري من نوع أكثر ندرة.
حيُّوا معي سلسلة نصوص متميزة التي تصدر عن دار الشروق.
ودفعه هذا الإعجاب كي يصعد بها لعنان السماء. لكن مع تقدم العمر ربما تبخّر هذا الإعجاب. ويكتشف عندما يعود لقراءتها بعد سنوات أن لذته القديمة، كان فيها قدر من المبالغة، ناتجة عن اندفاع الشباب، وأن عدم استمتاعه في القراءة الأخيرة قد يكون سببه تروي الكهولة. ورغبة الكهل في ألا يُخضع نفسه لنزوات الشباب. فكل زمن في حياة الإنسان له أذواقه التي تختلف من فترة لأخرى، بل ربما تناقضت بين زمن وزمن.
أعترف أن رواية: «حافة الليل»، للروائي الرائد أمين ريان. كانت استثناء من هذه القاعدة. فعندما قرأتها مع بداية سنوات الكهولة بعد لقاء الشاب الذي كنته قبل سنوات، اكتشفت في النص متعة جديدة. ربما تتفوق على الإحساس القديم بالمتعة، لأن متعة الوعي والإدراك وخبرة السنين قد تكون أفضل من متعة الشباب الأول.
قراءتها الأولى كانت اكتشافا لأرض بكر في الكتابة الروائية العربية. علاقة حب من النوع النادر بين فنان ورسام وموديله «أطاطا»، بل إن اسم البطلة أطاطا.. ظل يطاردني حتى في أحلامي. فعلاوة على نُدرة الاسم واختيار الأسماء مشكلة بالنسبة لأي روائي، خصوصا التوصل لاسم لا وجود له بكثرة. فإن أطاطا يظل اسما له طزاجة وبكارة من نوع خاص.
بعد القراءة الأولى بسنوات، فكرت أكثر من مرة في سؤال، عمّنا أمين ريان، عن أصل هذه الشخصية في أرض الواقع. لأن أي شخصية يبدعها الروائي في نصوصه الروائية لا بُد أن لها أصلا في الواقع. مهما كان هذا الأصل شديد البُعد عن الصورة التي ظهرت بها الشخصية في الرواية.
أعترف أنه لايزال لهذا النص ريادته وطزاجته وبكارته الأولى. إن إعادة نشر هذا النص بعد هذه السنوات الطويلة، وبعد أن وصلت الأمور في بر مصر لتحريم «الموديلز» العارية أو شبه العارية في كليات الفنون المصرية، لأسباب كثيرة يطول شرحها، فربما كانت مصر من الدول القليلة التي تحنُّ للعودة للماضي في بعض الأحيان.
مع العلم، أن هذا الماضي قد يكون أكثر جمالا من الحاضر. وأكثر بهاء من المستقبل الذي يمكن أن يخرج من رحم هذا الحاضر. هذا النص قادر على أن يستصرخنا، ويقول لنا: انظروا يا أهل مصر، كم كانت مصر أحسن وأجمل وأكثر بهاء، قبل سنوات قليلة.
أعترف أنني سعدت بإصدار هذه الرواية الرائدة من جديد. عن دار الشروق، ضمن سلسلة جديدة. هي سلسلة: نصوص متميزة. وهي سلسلة تعني بنشر النادر أو المنسي من الأدب المتميز والممتع الذي شكّل علامات مهمة في سيرة الأدب العربي الحديث. وأمين ريان هذا الفنان الشامل يكتب ويرسم، ويتابع الحياة الثقافية بكل دقة ودأب. مولود سنة 1925 وتوفي 2014 عن 89 عاما.
وكان ميلاده في حي روض الفرج. وعاش مع رفيقة عمره وشريكة حياته في حي الزيتون. «وبيته يقع بالقرب من ورشة الزيتون الإبداعية» التي انطلقت منها ثورة في متابعة الجديد في الثقافة المصرية والعربية والعالمية لم تحدث من قبل، وقام عليها الشاعر والمثقف شعبان يوسف.
نعود لأمين ريان ونقول، إنه دارس للفنون الجميلة، وروايته المهمة التي يمكن اعتبارها رواية عمره: «حافة الليل».. مكتوبة سنة 1945. لم تُنشر إلا سنة 1954. توجد معلومة مناقضة لهذه المعلومة في كتاب تذكاري، صدر عن الثقافة الجماهيرية، عن أمين ريان، أعده سيد الوكيل، وجاء في ببلوجرافيا القصة والنقد والأيام في حياة أمين ريان. للدكتور سيد نجم، إن رواية حافة الليل مكتوبة سنة 1948، وصدرت على نفقة الكاتب سنة 1954. فأي المعلومتين أدق؟!.
من المعلومة الأولى نفهم أن أمين ريان كتب الرواية وهو في العشرين من عمره، ولكن من الثانية يُفهم أنه كتبها وهو في الثالثة والعشرين من عمره. وفي أحد أحاديثه في الكتاب التذكاري، يعترف أمين ريان لسامي إسماعيل أنه كتب الرواية وعمره ثلاثة وعشرون عاما. إذن فمعلومة كتاب هيئة قصور الثقافة أدق من المدوّن على غلاف الطبعة الجديدة من الرواية. والرواية مكتوبة بضمير المتكلم «أنا» الذي يقيم مسافة من الإنسانية، بين البطل الراوي وبين القارئ المتلقي. إن الرواية الجميلة تبدأ هكذا:
- أتاحت لي إدارة الفنون الجميلة فرصة تقديم مشروع إتمام الدراسة مرة أخرى.
في آخر الرواية، ثبت ببعض المقالات التي كتب عن حافة الليل، حافة الليل أم درج الصباح للدكتور سيد البحراوي شفاه الله من مرضه وأعاده لنا مرة أخرى، ثم دراسة النقاد وحافة الليل، للدكتور مجدي أحمد توفيق.
وفي الدراسة، رصد يصل لحدود الذاكرة لما كُتب عن هذه الرواية في الصحافة المصرية. منذ صدورها حتى لحظة كتابتها، ثم: أمين ريان في بيته لسيد الوكيل. وفيه دراسة عن الحي الذي نشأ فيه أمين ريان، وأثّر فيه، بل ومهنة والد أمين ريان في المعمار. والأثر الذي تركته في إبداعه، وحوار أجراه مع المؤلف يسري حسان: أمين ريان. «استغنوا تُبدعوا».
وهي نصيحة خطيرة ومهمة، أتمنى أن تدركها الأجيال الجديدة، بل لا أغالي في القول عندما أقول أتمنى أن يضعها في الاعتبار جيلنا نفسه، أو من تبقى من جيلنا. فالاستغناء كلمة السر التي صنعت الكُتَّاب الكبار، منذ أساتذتنا الذين تعلمنا على أيديهم، حتى جيلنا والأجيال التي جاءت بعدنا.
كتبت من قبل في إحدى رواياتي، إن الحرص نباتٌ سام، وأقول إن الحرص والرغبة في الحصول على كل شيء مشكلة المشكلات بالنسبة للمبدع، لأنها تشغله عن مشروع عمره الأساسي ألا وهو الإبداع... أمين ريان عندما كنت أشاهده ومعظم لقاءاتنا تمت في ورشة الزيتون الإبداعية، أشعر أنه غسل نفسه من أدران الدنيا ومن أطماعها الكثيرة، ومن يتمكن من هذا بطل بشكل ما. وأمين ريان من الأبطال الاستغنائيين عن كل ما في الدنيا.
إنها ليست مجرد إعادة طباعة لنص جميل، بقدر ما هي احتفال من نوع نادر لمبدع مصري من نوع أكثر ندرة.
حيُّوا معي سلسلة نصوص متميزة التي تصدر عن دار الشروق.