«الراي» في طرابلس ومينائها الشاهد على «الترانسفير» السوري - اللبناني

فواجع الحلم الموعود «تكبح» موجة ركوب البحر إلى ... المجهول

تصغير
تكبير
• لبنانيون يلجأون إلى «البريد السريع» لحفْظ ... «خط الرجعة»

• نحو 450 شخصاً ينطلقون كل يومين نحو تركيا
صاخبٌ بحر طرابلس. تحت سماء المدينة الحُبلى بالغيوم أمواج متثاقلة متخمة بالهموم. وفي الأحياء الداخلية المكتظة عمودياً وأفقياً أحلام دائمة بقوتِ يوم آخر، بالطبابة عند المرض، بالأمن المستتبّ، وبالتعليم لجيل من الأبناء يعرّض آباؤهم حياتهم للخطر في هجرة تبدأ شرعية من ميناء طرابلس لتتحول إلى غير شرعية في أحد موانئ تركيا عند انطلاقها نحو اليونان ومنها إلى جاراتها الأوروبية.

صاخبٌ البحر الذي يندفع نحوه نازحون سوريون وهاربون لبنانيون، وفيه كل النذور والديون والدعوات والأدعية والصلوات ودموع الفراق وهواجس الخوف من المجهول، من الغرق، وشُح الرزق.

هنا للأرق ضجيجه الذي يبتلع كل تفاؤل ويخفت بريق كل أمنية. الجميع «مسكون» بهاجس الوصول وما بعد الوصول. هل تُشكِّل أخبار الموت غرقاً في عرض البحر رادعاً يكبح جماح الرغبة في ترك البلاد؟ الجواب لا تختصره الحروف، بل تكتبه أعداد تذاكر السفر التي تُقطع يومياً.

في طرابلس التي يغادر شبابها من بوابة البحر. تعيش المدينة على وقع الأخبار: فلان بلغ مقصده، آخر وصل. جاره لم يصل وانقطعت أخباره. تطبيق «الواتساب» يدرّ بالصور التي تواكب الرحلة في مختلف مراحلها. في البحر وعلى البر، في «الفلوكة» (المركب) وفي مخيمات اللجوء، وفي بضعة مواقع من بلاد المهجر.

هل تجوز تسمية ألمانيا أم السويد أو غيرها من دول أوروبا ببلاد المهجر؟ ليس بعد. ربما تصبح كذلك بعد فترة من الزمن، إذا مُنح المهاجرون غير الشرعيين الإقامة في هذه البلاد الغربية الغريبة.

من «ساحة النور» حتى مرفأ الميناء، لن يستغرب زائر المدينة سماع «سيرة» الهجرة على كل لسان. سائق الأجرة يحادث الزبون عن أحد أقاربه. نبرته تعلو وتنخفض لتضيف عنصر «التشويق» إلى قصة الرحلة والعبور نحو بلاد الله الواسعة، والأوسع من المنزل الضيق في أبي سمرا. الزبون يؤكد لزوار المدينة أن الهجرة هي «في عين» كل طرابلسي ولن يألو عن ركوب البحر مَن استطاع إليه سبيلاً.

المرفأ هو الوجهة والواجهة. هو المحطة اللبنانية الأخيرة. مَن يتجمهر داخله من المهاجرين لا تزال صفته مسافراً. فهو في هذا المكان ينجز مراحل الاستعداد القانونية للذهاب. ووفق معايير هذا المرفق، هو مسافر بقصد السياحة والاستجمام. وأمتعته التي جهزها في حقائب الرحيل تشهد على ذلك. لذا، وبحسب التذكرة التي قطعها، أيام ويأفل عائداً إلى لبنان، إلى هنا... طرابلس.

غير أن حسابات المرفأ تختلف عن حسابات النيات. وخط النهاية يختلف عما يحدده خط البداية. الوجهة ليست تركيا، فالأخيرة محطة للعبور. والعبرة في الوصول إلى شاطئ الأمان.

خارج المرفأ، حيث يُوِدعُ البحر أبناء المدينة لتحملهم السفن إلى تركيا، كشك يبيع المرطبات والحلويات وكذلك تذاكر السفر. صاحب الكشك يملك مكتباً للسفر، ويوزّع أعماله في بيع التذاكر بين المكانين بحسب ما يقول لـ «الراي»، حيث يشير للزبائن بعبارة: «حجز تذاكر السفر» التي كُتبت بالقلم العريض على الكشك.

يُدرك صاحب الكشك الذي أبى الكشف عن اسمه أن مَن يشترون البطاقات للتوجه بحراً نحو تركيا يزمعون الهجرة إلى أوروبا، وأن زيارتهم إلى بلاد «أتاتورك» هي محطة في مشوار الألف الميل. ويقول لـ «الراي»: «نحن نبيع التذاكر منذ عامين، لكن الإقبال على شرائها تزايد بصورة لافتة منذ نهاية فصل الصيف»، موضحاً أنه «يبيع في اليوم بين 20 إلى 50 تذكرة، والأمر غير ثابت والمبيع يتذبذب بين هذين الحدين»، ويضيف: «لكن عدد مَن يقصدنا في المكتب أكبر من ذلك بكثير، بحيث يقصدنا نحو 300 إلى 400 شخص، وينطلق على الباخرة نحو 450 شخصاً كل يومين».

تذكرة السفر التي يبيعها الرجل يبلغ ثمنها 185 دولاراً أميركياً، ومَن يشتريها بقصد الهجرة غير الشرعية هم من الطبقتين الميسورة والفقيرة. فالكل يزمع الرحيل، والكل يحلم بغد أفضل. أفضل من الحال التي يمسي ويصبح عليها سواء أكان مقبولاً أم غير مقبول.

غالبية الذين ركبوا البحر هم من مختلف مناطق الشمال ومن مختلف أحياء طرابلس إن لم يكن كلها. صاحب الكشك يتحدث عن آلاف المهاجرين غير الشرعيين. بعضهم بلغ الضفة الأخرى من البحر حيث مقصده. البعض الآخر قضى غرقاً قبل بلوغ اليونان، لكن لا أعداد واضحة لديه عن المفقودين، فكل ما يصلهم هو أخبار تصح حيناً وتكذبها الوقائع حيناً آخر.

من مرفأ الميناء إلى أحياء المدينة الداخلية، الكل مشدود إلى فكرة الهجرة. في حي الأندلس الشعبي المتوارى خلف شوارع فخمة المباني، 50 شاباً تركوا بيوتهم في هذه الحارة. ركبوا البحر كمَن سبقهم ومَن سيلحق بهم. بعضهم آثر المغامرة بنفسه أولاً تاركاً زوجته وأولاده في لبنان، والبعض الآخر أراد لكل عائلته النجاة من وضعها «الحرج» في هذا الحي الفقير، عسى أن يصلوا جميعهم إلى أوروبا سالمين.

لكن الهجرة على لسان ذوي المهاجرين، تختلف في صفاتها ومصطلحاتها عما تصوّره تعابير عموم أهل طرابلس. ليست أوروبا جنّة ولا الهجرة إليها خلاصا. هكذا يخبر المهاجرون ذويهم. هم بلغوا ألمانيا أو السويد بعد «كباش» مع البحر كاد أن يهلكهم. وعند وصولهم وُضِعوا في مخيمات مع لاجئين آخرين ظروفهم فيها أشدّ قساوة من مرارة الفقر في طرابلس.

ناجي العتقي ابن التاسعة والعشرين ترك في منزله المتواضع زوجة وولدين، وهاجر إلى ألمانيا. هو حلّاق وما يتقاضاه يومياً من قصّ الشعر وتشذيب الشوارب واللحى لا يؤمن الحد الأدنى من متطلبات الحياة قوتاً وطبابة وعلماً للأولاد. استدان من الأقارب والأصدقاء ثمن تذكرة السفر والرحلة إلى اليونان. ثم رحل وحيداً على أمل تعبيد الطريق نحو مستقبل أفضل لأسرته بما فيها أمه وأبوه وإخوته فهو المعيل لبيتين متهالكيْن متجاوريْن في «الأندلس».

لم يستمع ناجي لنصائح كل مَن حاول إقناعه بالبقاء في بلاده بين أهله وناسه قبل شهرين. لكنه نادم اليوم بحسب ما يقول أخوه محمد لـ «الراي»، حيث يشير إلى أن ناجي «قضى أياماً عقب وصوله إلى ألمانيا في المستشفى بسبب تعب الطريق واختلاف المناخ بين لبنان وألمانيا».

ويضيف: «لم تكن رحلته سهلة، فقد واجه أخي بين أمواج البحر خطر الغرق لمدة سبع ساعات، أنقذهم بعدها زورق يوناني ونقلهم إلى البرّ. لكن نفسيته تعبة جداً وهو ينتظر خضوعه لعملية الغدة حتى يعود سريعاً إلى لبنان».

ناجي لم يتلف أوراقه اللبنانية ولم يرمِ جواز سفره بالبحر، بل أرسله في خدمة DHL إلى أخيه محمد عند وصوله إلى تركيا، وهو ينتظر إرساله إليه مجدداً كي يعود إلى بلاده. لسان حال ناجي: «يا ليتني بقيت في بلادي». ومحمد أخوه نهى أخيراً أربعة شبان عن السفر من خلال حضّهم على التواصل مع ناجي الذي نصحهم بعدم السفر فاقتنعوا بالبقاء في لبنان على قاعدة «البهدلة في البلد الأم أفضل من البهدلة في الخارج».

في منزل نبيهة أرناؤوط (أم محمد) المتواضع، والقابع فوق سلالم تآكلت بفعل الزمن، لا رجال. وهي الأرملة التي فقدت زوجها قبل عقود، رحل أبناؤها الذكور الثلاثة إلى ألمانيا الواحد تلو الآخر.

ربيع ـ الأصغر (29 عاماً) ـ غادر أولاً بطريقة شرعية، بعدما اقترن بفتاة لبنانية تحمل الجنسية الألمانية. أخواه لحقا به بطريقة غير شرعية قبل أشهر، تاركين في مدينة الميناء زوجات وأولادا يتطلعون إلى ظروف حياتية أفضل.

أم محمد تقول لـ «الراي» بمزيج من الشوق والأسى: «بعد رحيل أولادي مرضتُ من حزني على فراقهم. لم يتبقَ في منزلنا رجل». تبكي وتمسح دمعة، لتواسي نفسها بالقول: «يحادثونني كل يوم». ثم تنسكب دموعها مجدداً عندما تشير إلى أن «محمد كاد أن يغرق بعدما أمطرت السماء بغزارة ولفّ الضباب محيط المركب في طريقهم إلى اليونان»، لكنها تحمد الله عندما تقول ان «زوارق أنقذتهم من موت كاد يحرمها فلذة كبدها».

محمد وأحمد اللذان غادرا إلى ألمانيا مازالا في المخيم ولم يجدا بطبيعة الحال أي عمل بعد، رغم أن كلا منهما «يتقن صنعة». ومع ذلك، فالشابان لا يشعران بالغربة لأنهما يأنسان لربيع الذي حصل على الإقامة منذ مدة ويهتم بشؤونهما.

والدتهم الكهلة لن تتبعهم، فهي لا تريد مغادرة لبنان، كذلك أختهما الصغرى التي هالتها أخبار الموت غرقاً فأزالت فكرة الهجرة التي راودتها لفترة من رأسها تماماً. أولاد محمد وأحمد وزوجتاهما لن يلحقوا بهما أيضاً، فبحسب ما تشير الأم، إلى أن نظام «لمّ الشمل» لم يعد معمولاً به. وتختم بمزيد من الحزن والأسى: «إذا لم تدمع عيناي فإن قلبي يبكي... أشتاق إلى أولادي!».

عدنان الصايغ أكثر تَماسُكاً. هو أيضاً ودّع ولده. لكنه يقف في دكانه يقطع الدجاج ويغسله كعادته في كل صباح.

يتحدّث عدنان لـ «الراي» عن ابنه مصطفى (24 عاماً) الذي هاجر إلى بلجيكا. فيقول: «جرّب مصطفى حظوظه في كثير من الأعمال والمهن، منها الطبخ وقيادة سيارة أجرة، لكن سوء طالعه ظلّ يلاحقه إلى أن قرر الهجرة غير الشرعية على غرار كثر من أبناء الأندلس خصوصاً والشمال عموماً».

يضيف: «جهز ابني جواز سفره، ثم أعلمني بنيته السفر إلى تركيا بقصد السياحة، لكنني فهمتُ مباشرة غايته التي تعكسها رغبة أبناء جيله بترك البلاد عبر البحر طمعاً بأيام أفضل».

غير أن عدنان لم يخَف على ولده من «موجة» الغرق عملاً بالمثل القائل: «يللي إلو عمر ما بتقتلو شدّة». يبتسم، ثم يكمل عمله في تقطيع الدجاج، راوياً المخاطر التي واجهت ولده في البحر بين تركيا واليونان حين أُطلقت النار على المركب المطاطي. ثم يتوقف عن العمل والكلام معاً ليهلل شاكراً الله أن «مصطفى ابن الميناء أي ابن البحر وهو سبّاح ماهر منذ الصغر، لذا لا خوف عليه من أعتى الأمواج».

في باب الرمل (أحد أحياء طرابلس)، ترفض سيدة تجلس خلف طاولة في دكان متواضع الحديث عن سفر ابنها إلى أوروبا بطريقة غير شرعية. تؤكد أن نجلها سافر بمساعدة أحد أقاربه كي يكمل دراسته في ألمانيا عبر المطار وليس المرفأ، لكن أحد معارفها لا يلبث أن يؤكد أن ابنها ركب البحر مع مجموعة من أصدقائه، لكنها تخشى الحديث عن الأمر خوفاً على ابنها الذي وصل إلى برّ... المجهول.

في المنطقة نفسها يجلس رجلٌ في العقد الرابع من عمره ومعه جاره يحتسيان القهوة في ظلال دافئة. ككل يوم يتحدث هذا «المواطن اللبناني» الذي أبى الكشف عن اسمه، عن أوضاع البلاد، ضيق العيش، وسوء الأوضاع الأمنية، عن تردي الخدمات وقلة المال. رغم ذلك، يؤكد عزوفه عن الهجرة التي غررته لترك لبنان. فهو كغيره أراد لنفسه واقعاً أفضل لن يتحقق إلا عبر البحر... ولكن!

كان الرجل في البدء ينتظر تأمين المبلغ المطلوب لشراء تذكرة هنا وتأمين بدل انتقاله إلى اليونان هناك. لكنه الآن لم يعد يفكر مطلقاً بترْك طرابلس. ليس للأمر علاقة بالمخاطر التي يخبئها البحر بين أمواجه، بل بـ «البهدلة» التي يواجهها اللبناني في البلاد التي اعتقد أنها الحلم الموعود.

«كل مَن سبقنا يخبرنا عن معاناته، وأن اللبناني يُعامل بطريقة سيئة جداً، لذا فمن الأفضل أن نبقى هنا محفوظي الكرامة». يقول «المواطن»، الذي يتساءل: «إنْ رحلنا كلنا فلمَن نترك بلدنا؟».

وفي هذا السياق، يكشف رئيس مركز طرابلس لحقوق الإنسان المحامي رامي إشراقية لـ «الراي»، أن «نسبةً كبيرةً من الذين غادروا لبنان للهجرة إلى أوروبا بطريقة غير شرعية صُدمت بالواقع عند وصولها إلى مقصدها».

ويشير إشراقية إلى «ما يُحكى عن أن عدد الذين هاجروا يناهز الـ 30 ألف مهاجر من الشمال عموماً»، موضحاً «أن لا عدد أو إحصاء رسميّاً في هذا الإطار، وهذا الرقم هو استناد إلى ما يُحكى عن عدد الذين تقدموا بطلب جواز سفر في هذه الفترة»، وكاشفاً أن «العدد الذي يعرفه عن شباب من الميناء وطرابلس هاجروا إلى أوروبا بطريقة غير شرعية يصل إلى نحو 5000 أو أكثر بقليل».

ويلفت إلى أن «كل دولة من البلدان التي يصل إليها المهاجرون توفّر تقديمات مختلفة»، قائلاً: «ما تقدمه ألمانيا مختلف عمّا تقدمه السويد أو مقدونيا. والبعض ممن هاجر استفاد في هذا البلد أو ذاك من تقديمات لم يكن يتوقعها ربما»، ومضيفاً: «هناك نقطة مهمة جداً تتمثل في أن بعض هذه الدول أعلنت أنها يمكن أن تقوم بترحيل المهاجرين خلال سنة في حال لم تتوافر فيهم الشروط القانونية للجوء، ما يعني أن بانتظار هؤلاء مشكلة أخرى بعد التدقيق بأوراق المهاجرين. فعلى سبيل المثال مَن ترك لبنان مدّعياً أنه سوريٌ لا يملك هوية (بعدما تخلص من أوراقه الثبوتية)، ستقوم الدولة الأوروبية المعنية بالتواصل مع الحكومة السورية للتثبت من أنه مواطن سوري، وعند تثبت العكس طبعاً فسيتم قانونياً ترحيله (منطقياً إلى لبنان)».

ويختم: «حاولنا مرات عدة التواصل مع الشباب الراغبين في الهجرة لإقناعهم أولاً بالبقاء في لبنان، وثانياً بالهجرة بطريقة شرعية وفق إجازة عمل وعدم اتباع هذه الطريقة بالهجرة غير الشرعية نظراً لخطورتها، كما أكدنا للشباب ضرورة الحفاظ على جواز السفر وعدم تمزيقه، والقيام بإرساله إلى الأهل بالـ DHL كي يرسلوه إليهم في حال أرادوا العودة إلى لبنان».
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي