نص / الصخرة

تصغير
تكبير
أهلا... أنا صخرة صغيرة مرمية على جانب الطريق... مهلة... مهلة لا تطووا صفحات الكتاب وتهزأوا بي فبالرغم أني صخرة صغيرة الحجم بالية إلا أن لي بطولاتي وحكاياتي وهذه قصتي:

ولدت قبل ألف عام تقريبا لست متأكدة... لاشك في أنه يتبادر لأذهانكم أني طاعنة في السن هرمة... حسنا لست كذلك فأنا لا أزال صغيرة وأحتاج آلاف السنين لأغدو صخرة يافعة.

قبل زمن بعيد كنت في حجم حبة رمل وربما أكبر قليلا انقسمت بسبب عوامل التعرية والتجوية من صخرة على قمة الجبل أصبحت حينها هائمة على وجهي تتخطفني أيدي الرياح حتى تلك النسائم الهادئة كانت تفرح باللعب بي ودحرجتي هنا وهناك بين الحين والآخر. في تلك الأيام الخوالي وضعت في بلاد عديدة وحططت على أراض مختلفة بعضها بيداء حارة وأخرى أراض خصبة مثمرة وغيرها جافة يابسة، وسافرت عبر البحار المختلفة وحملتني الأنهار الجارية معها في ترحالها، كنت تائهة لا وطن لا حضن يؤويني ولا مكان أنتمي إليه... أصارحكم القول إني في بادئ الأمر كنت فرحة لأني سأرى العالم، ولكن بعد أن أصبحت وحيدة بدأت اشتاق لكوني جزءا من شيء أخذت أسامر الليل وأعد النجوم وحتى الليل كان في كثير من الأحيان يسخر من صغر حجمي... فليس الليل أفضل من أن أكتب عليه عتابي.

كثرت سنوات غربتي حتى أنستني أيامها أن أعدها وأحصيها، وفي يوم كانت الرياح في ذروة غضبها وجبروتها حبست تحت صخرة عظيمة فغطت في سبات عميق دفعني إليه الظلام الدامس بقوة.

لا أعلم كم من الزمان ظللت نائمة إلا أن أيقظني ضوء خافت تسلل من أشعة الصباح ليداعبني شعرت بدفء يغمرني، اه إنه الصباح ما أجمل الصباح وما أجمل النور بعد الظلمة، استمر ذلك الضوء يزورني كما أتيحت له فرصة التسلل مع أشعة الشمس، وأخيراً جاء يوم تحريري، يومها سمعت أصواتا مألوفة أصوات سمعتها مرارا وتكرارا نعم سمعت تلك الأصوات تتسامر، تتجادل تتشاجر، تتعالى، تتهامش نعم... نعم.... إنها أصوات البشر.

ياه ما هذا الصوت، بل ما هذا الضوء الذي يندفع باتجاهي كاندفاع الشلال إلى الهاوية.

ياه إنها الشمس، إنها الغيوم، إنها السماء خلت أني لن أراها ثانية، وفي تلك اللحظات اندفعت أنغام الفرحة تعزف على أوتار قلبي فكم هي الحرية جميلة.

آه ها هي الرياح اللعوب... ولكن ما هذا إنها تمر من جانبي لم لا تدحرجني كعادتها... هل.... كيف... ماذا

أسئلة كثيرة تداهمني، تمطر علي، أسئلة مختومة بعلامات استفهام وتعجب.

هل ممكن أن تكون كتلتي قد ازدادت...

نعم... نعم أنا أكبر لم أعد تلك الحبة الصغيرة انظروا... انظروا إلى دقائق الرمل تحت كم هو رائع أن نزيد حجما والأروع أن نزيد معه عقلا.

واستمرت دورة الحياة فجاءت ريح عاتية وحملتني معها ليكمل الزمان نسج ملامحي وتتابع الحياة تفننها في وضع تضاريسي وتضيف لي وتنقص مني وأركبني البحر على سرجه ليستقربي على شاطئ لف الحزن جوانبه وتغلغل إلى أعماقه السحيقة لينحت من معانيه تحفة أبدية.

في تلك البلاد سمعت نداء الرحمان يأتي من محارب الإيمان يرافقه تشير القنابل والمدافع، سألت من حولي من الصخور ما تلك البلاد لم ليس هناك طفل يضحك ويلعب؟ لم الأمهات ثكالى؟

فقالت لي إحدى الصخور هذه فلسطين... هذه العربية السبية... هذه الأسيرة الأبية. كانت تلك تروي قصتها وهذه تحكي بطولتها، شدتني حكايتهم إليها فتشوق قلبي ليخوض مضمار تلك البطولات.

وفي اليوم التالي وقفت على ناصية الطريق و أترقب أن تحملني إحدى الأيادي وترميني على الطغاة ليكون لي بطولة تزين صفحات عمري وتتلألأ البقية المتبقية من حياتي...

يومها لم يحملني شاب او رجل ولكن حملني طفل... طفل ترك ملاعب الطفولة وشقاوتها وآثر عليها أن يمسكني بقبضته الناعمة ويضغط علي بأصابعه الصغيرة وهو يستجمع قوته ويمدني بها كأنه يرجون أن أصيب هدفي وحتى وأنا صخرة أبكاني ذلك الطفل الذي أجبره العدوان أن يرمي بلعبه جانبا ويحمل فوق كتفيه أوزار الحرب... لم أصب هدفي للأسف ولكني وللمرة الأولى استطعت أن أترك مقاعد المتفرجين وأنزل لأقف بين صفوف المشاركين، أعتقد أن ذلك الطفل علمن الكثير علمني كيف أدافع عن نفسي عن أهلي عن وطني كيف أكون بطلة كيف أستبدل متاع الحياة بأدوات الحرب لأرد ما أخذ مني غصبا.

بعد ذلك التفت حولي أصابع قوية، كان شاب مفعم بالحياة قذفني وهو يحملني رسالة جاء في مضمونها إننا لن نرضخ ولن نرضى أن تسرق قدسنا منا أن نجرد من عروبتنا من كرامتنا من حريتنا وسنحارب ونحارب حتى نعيد عروسنا إلى كرسيها ونرد تاجها إلى رأسها. أتذكر مرة أنه أمسكني عجوز يكاد العظم أن يخترق جلده وبالرغم من ذلك أبا ألا يختم حياته بعمل على حساب الآخرة... آه يا فلسطين كم رأيت فيك قتلي وكم بكيت بجانب مسجدك الجريح، وكم تدحرجت فيك بين أرجل المشيعين وكم من مرة اغتسلت بدماء شهدائك الأبرار... سأرحل اليوم عنك بعد أن أثقلتني أحزانك وزادت في عمري ملايين الستين، أن أقول وأنا أقف على جانب الطريق لكل مسلم ولكل عربية وأخص من يجمع بينهما كيف ترضى أن تعيش وقد استبيحت أرضك كيف... آه أعلم أنكم سمعتم مثل كلامي مرارا وتكرارا ولكني لا أريد أن يقرأ قصتي أحد لكني يستمتع بها أو لكي يقيس مستواها الأدبي ولكني أريد من يقرأها أن يحمل بين طيات قلبه عروبة حقه لكي يكون قادرا على فهم ما أرمي إليه.

* كاتبة النص ومؤلفته كان عمرها 13 سنة
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي