متى اعترفت السلطات الجزائرية بأن الإرهاب قد عاد وأطل برأسه بقوة ووقاحة، وأن عليها التعاطي مع هذه الظاهرة الخطيرة بطريقة مختلفة، يصبح في الإمكان عندئذ القول ان هناك جدية في مواجهة الوضع الذي يعاني منه البلد. نعم، عاد الإرهاب إلى الجزائر، بل عاد يضرب الجزائر والجزائريين. أنه نوع قديم من الإرهاب الذي يستهدف قتل أكبر عدد ممكن من الأشخاص عن طريق انتحاريين. لكن ذلك لا يمنع من ملاحظة أن ثمة اختلافاً في العمليات الإرهابية الأخيرة مقارنة مع الماضي. يكمن الاختلاف في أن منفذي العمليات الانتحارية، أكان ذلك في مدينة يسر الواقعة في ولاية بومدراس كما حصل الثلاثاء الماضي أو في البويرة في اليوم التالي، يمتلكون معلومات دقيقة تمكنهم من ضرب أهداف محددة ذات علاقة بالمؤسسة الأمنية الجزائرية، أو شركات أجنبية تستثمر في الجزائر بعيداً عن أي نوع من العشوائية. في يسر، كان الهدف المدرسة الحربية التابعة للدرك الوطني، وتسمى المدرسة المركزية للدرك الجزائري، كان مطلوباً جعل الذعر يدبّ في أوساط الشباب الراغبين في الانضمام إلى سلك الدرك. وفي البويرة، كان الهدف مركزاً أمنياً حساساً وشركة كندية تستخدم عمالاً جزائريين. ترافق ذلك مع اغتيال عدد لا بأس به من الضباط الجزائريين يشغلون مناصب أمنية مهمة في الولايات المختلفة. حصل ذلك في الأسابيع القليلة الماضية وكان ملفتاً أن السلطات الجزائرية بذلت جهوداً للتغطية على هذه الجرائم كي لا يسود الذعر البلد، وكي لا يعتقد الجزائريون أن الأعوام السود عادت. بغض النظر عن الجهود التي بذلتها السلطات الجزائرية في محاولتها لطمأنة المواطنين، تشير الأحداث الأخيرة بكل بساطة إلى أن الأرهابيين يمتلكون شبكة كبيرة تمكنهم من جمع معلومات دقيقة عن المؤسسة الأمنية الجزائرية، وعن أهداف اقتصادية محددة يعتبرها الإرهابيون حيوية، كما لديهم القدرة على تجديد كوادرهم بعدما وجدوا مناطق آمنة داخل الجزائر نفسها وخارجها. يمكن حتى الحديث عن اختراقات للأمن الجزائري مكن الإرهابيين من الحصول على المعلومات المطلوبة.
ليس سرّاً أن موجة العنف الأخيرة التي تشهدها الجزائر امتداد لسلسلة من العمليات الإرهابية تعرضت لها البلاد العام الماضي. من بين تلك العمليات انفجار كبير استهدف مقر رئاسة الحكومة في العاصمة، ونسف مقر الأمم المتحدة، وقبل ذلك محاولة اغتيال الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في السادس من سبتمبر في باتنة شرق البلد. كان العام 2007 نقطة تحول في الحرب على الإرهاب. فبعد أعوام من الهدوء النسبي بدأت في العام 2000، ظهر جلياً أن المتطرفين الذين بدأوا يعملون تحت تسمية «تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي» وضعوا استراتيجية جديدة تتجاوز الجزائر. إنها استراتيجية تشمل كل منطقة المغرب العربي، وتستفيد من أي ثغرة في المنظومة الأمنية للبلدان الممتدة من المغرب حتى ليبيا مروراً بتونس والجزائر، وفي تلك الموجودة على طول الشريط الذي يبدأ بموريتانيا ويصل إلى جنوب السودان في منطقة جنوب الصحراء.
تدفع الجزائر حالياً ثمن عدم اقتناع القيادة فيها بأن لا مجال لمتابعة الحرب على الإرهاب من دون تعاون إقليمي فعال. كانت هناك مرحلة التسعينيات من القرن الماضي التي بذل خلالها الجيش الجزائري الكثير من التضحيات لاجتثاث الإرهاب الذي عاد وأطل برأسه مجدداً. كانت هناك قناعة لدى الضباط الجزائريين في عزّ الأعوام السود بأن الحرب على الإرهاب طويلة، وأنه يمكن أن تستمر من خمسة إلى سبعة أعوام. كان هؤلاء على حق في تقديراتهم. ولذلك بذل هؤلاء الضباط مع جنودهم جهوداً جبارة للمحافظة على المؤسسات، مؤسسات الجمهورية التي من دونها لا دولة في الجزائر. لم تشهد الجزائر فترة من الهدوء النسبي سوى ابتداء من العام 2000. لكن المشكلة تكمن حالياً في أن الإرهابيين غيروا من أسلوبهم واستراتيجيتهم، في حين بقيت جزائر عبد العزيز بوتفليقة أسيرة عقد الماضي القريب، خصوصاً عقدة المغرب وعقدة لعب دور إقليمي مهيمن متناسية أن الإرهاب يستفيد من هذا التفكير السطحي. وفي مقدم العقد التي يعاني منها النظام الجزائري، الرغبة في اقتسام الصحراء مع المغرب بدل الاقتناع بأن حل الحكم المحلي الذي تطرحه الرباط ينقذ ماء الوجه للجميع، بما في ذلك جبهة «بوليساريو» التي لم تعد في نهاية المطاف سوى أداة من أدوات الأجهزة الأمنية الجزائرية.
يفترض في النظام الجزائري، في حال كان جدّياً في متابعة الحرب على الإرهاب الاقتناع بأن ثمة حاجة إلى استراتيجية جديدة ترتكز على التعاون الإقليمي بما في ذلك الاقتناع بأمرين: الأول أن الدخول في منافسة مستمرة مع المغرب، بما في ذلك رفض إعادة فتح الحدود بين البلدين لا يصب سوى في مصلحة الإرهاب والإرهابيين الذين يستغلّون غياب التعاون الإقليمي في المواجهة معهم. أما الأمر الآخر فهو مرتبط إلى حد كبير بالوضع الموريتاني. الأكيد أن ليس في الإمكان تأييد انقلاب على سلطة شرعية منتخبة، ولكن ليس في الإمكان في الوقت ذاته التساهل مع رئيس موريتاني أظهر ضعفاً كبيراً في الحرب على الإرهاب ولم يؤد الدور المطلوب منه في هذا المجال. على العكس من ذلك، نسي أن العسكر الذين انقلبوا عليه هم الذين أتوا به إلى السلطة عندما خلصوا موريتانيا من حكم معاوية ولد الطايع... وأنه لم يكن متوقعاً منه أن يطعنهم في الظهر بعد أشهر قليلة من وصوله إلى الرئاسة.
غيّرت «القاعدة» استراتيجيتها. هل تغيّر الجزائر استراتيجيتها بما يتفق مع المعطيات الجديدة القائمة على أن الإرهابيين يتحركون من مناطق عدة في المنطقة على امتداد شمال أفريقيا ومنطقة جنوب الصحراء وليس من داخل الأراضي الجزائرية وحدها؟ الأمل ليس كبيراً في أن تتخلى الجزائر عن عقد الماضي. مع ذلك، لا يمكننا إلا الرهان على أن الواقعية ستنتصر أخيراً، وأن على بوتفليقة، الساعي إلى ولاية رئاسية جديدة العام المقبل، الاقتناع بأنه ليس هواري بومدين وأن الأيام التي كان فيها بومدين رئيساً جزء من الماضي وليس من المستقبل. كانت أياماً مختلفة في منطقة مختلفة وفي عالم مختلف. كان بومدين رئيساً في السبعينات، أيام الحرب الباردة... وأيام كان هناك من يصدق أن الجزائر تناضل من أجل أن تكون هناك قوة عالمية ثالثة، ومن أجل حق الشعوب في تقرير مصيرها وليس من أجل التغطية على الفشل الاقتصادي والاجتماعي الداخلي المريع على كل المستويات. انه فشل التصنيع وفشل كل السياسات الاقتصادية والزراعية والاجتماعية التي قادت إلى انفجار خريف العام 1988. ذلك الانفجار الذي لا تزال الجزائر التي تدفع ثمنه إلى الآن.
خيرالله خيرالله
كاتب وصحافي لبناني مقيم في لندن