لا أعتقد أنه ينبغي أن تبقى الصيغة القائمة بين القطاع الخاص والدولة على ما هي عليه الآن، أو ليكن كلامنا أكثر تحديداً ووضوحاً، «على بلاطة» العلاقة بين الدولة، كمؤسسة، وبين المليارديرات ... حان وقت الفطام.
في منتصف السبعينات أعلنت الدولة الانفتاح الاقتصادي، وكان من المفهوم أن الانقطاع الذي حدث في مسيرة الرأسمالية المصرية بسبب التأميم في الستينات أدى إلى إفراز عدد لا بأس به من المغامرين و«الهبيشة». وكان أن سارعت أعوام الثمانينات في بدايتها بأن كبحت جماحهم وأعادتهم إلى المربع رقم صفر، وحدثت بداية جديدة.
«كبح الجماح» لم يعطل توجه الدولة الاستراتيجي الذي يؤمن بأن عليها أن تعطي الفرصة الأكبر للقطاع الخاص، إذ لم يكن ولن يكون القطاع العام قادراً على قيادة عملية التنمية ومتطلباتها وحده، وقدمت الدولة العديد من الحوافز للقطاع الخاص، وشجعت أسماءً، ودعمت من رأت أنهم يمكن أن يتقدموا مسيرة الرأسمالية المصرية، وهو ما أدى إلى صعود عدد كبير من الأسماء التي صارت الآن تقليدية ومعروفة.
تواكب مع هذه المساندة، إيماناً بأهمية القطاع الخاص، عملية إصلاح اقتصادي، تعثرت مرة ونهضت مرة، وانطلق التحرر رغم مقاومة البيروقراطية والظروف الدولية، ونجح القطاع الخاص ورموزه المحدثون في تحقيق التصدي لنحو 65 في المئة من الاستثمارات. غير أن بعض النجوم المليونيرات، حتى ذلك الوقت فلم تكن المليارات قد عُرفت بعد، كانت قد بدت عليهم ملامح محدثي النعمة، و«النوفو ريتش» فتبهرجوا وتمنجهوا، وحين شبعوا راحوا يتصارعون ويتبارزون، ويستخدمون أساليب الضرب تحت الحزام فيما بينهم، وحدثت معهم وقفة شهيرة في الفترة ما بين نهاية العام 1997 وبداية العام 1998.
وفيما كان هناك ما يمكن تسميته بصفحة جديدة، راحت تنضج تنظيمات الأعمال، وتتبلور، معبرة عن تطور في مسيرة الرأسمالية، وصار لجمعيات رجال الأعمال وجود مؤثر، أدى إلى الظن أنه يمكن لها أن تتحول إلى جماعات ضغط على القرار بحيث يخدم المصالح الخاصة، في حين أن هدف تشجيع القطاع الخاص هو أن يتبوأ مهامه الاقتصادية والاجتماعية.
حدث الركود الشهير في بداية الألفية، وتراجعت المعدلات ومعها تراجع الصخب الذي كان يحدثه بعض المتبهرجين إلى حد ما، لفترة قصيرة، قبل أن يعود الاقتصاد إلى النمو بفعل قرارات من الدولة، وتوافقاً مع ظروف دولية، ونمت الثروات من جديد، غير أنه بدلاً من أن تعود المنظمات المعبرة عن القطاع الخاص جماعياً صرنا نعرف المؤسسات التي يقودها أشخاص وأفراد، واتسعت الآفاق، وبدأ المجتمع يعرف المليارديرات على نطاق واسع، وربما كانوا موجودين ولكنهم بدأوا في الكشف عن أنفسهم وأحجامهم بعلانية.
جميل جداً. لا ينبغي أن نكون كلنا فقراء، ولن يوجد هذا المجتمع الذي يتساوى فيه الجميع. ولكن هدف التحرر الاقتصادي هو أن تتسع أبواب الفرص، وحين يتحول المليونيرات إلى مليارديرات فإن هذا يعني أن يتحولوا إلى قاطرات تقود عملية التنمية لكي تخلق فرصاً للعمل، وتحاول أن تفرض على نفسها قدراً من النضج الواجب، ليس فقط على مستوى المسؤولية الاجتماعية ولكن أيضاً على مستوى السلوك الشخصي.
لكن الذي حدث من البعض، ولا أقول الكل، هو غير ذلك وفي الوقت الذي عادت الرأسمالية إلى «السلوك المتفشخر» فإنها اختلقت معارك فيما بينها، تؤثر على المناخ العام، وراحت في الوقت ذاته تقترب أكثر فأكثر من المجتمع السياسي وبصورة واضحة وجلية، وأخذ هذا الاتجاه بين الرأسماليين المصريين دفعة كبيرة مع انتخابات برلمان 2005 التي أنجحت عدداً لا بأس به من الأثرياء، ثم أخذت دفعة إضافية مع توجه الحكومة إلى الاستعانة بكوادر من القطاع الخاص... فاستوزرتهم.
المنطق مفهوم، والتفاعل الذي أدى إلى ذلك طبيعي، والظاهرة لها ما يوازيها في الدول الرأسمالية الأكثر نضجاً، والمعنى هو أن مؤسسات القطاع الخاص أصبحت من النضج والتراكم بحيث إنها يمكن أن تقدم خبرات ناجحة للحياة العامة، تماماً كما تفعل ذلك المؤسسات التقليدية ومنها الجامعات، ولذا كان متفهماً الاستعانة بتلك الخبرات في مختلف المجالات، سواء على المستوى الوظيفي أو على المستوى الحزبي، حيث يمثلون قطاعهم أو من خلال انتخابهم بإرادة الناس.
لكن مسارات التفاعل لم تمض في الاتجاه الصحيح في كل الأحوال، ومن ثم وجب الفطام. لماذا؟ هذا ما سوف أكمل فيه غداً.
عبدالله كمال
رئيس تحرير «روزاليوسف» ومستشار «الراي» في القاهرة