نصوص قصيرة

| أوس حسن |


ذاكرة خضراء
كان يرى نور العالم من خلالها، ويرى تلك النافذة البعيدة التي تمنحه عبق الحقيقة والجمال، إن سقطت دمعته يوماً على التراب؛ أنبتت زهوراً تترنّم باسمها الحالم.
كان يرى في ابتسامتها مطراً من البلّور الشفاف الذي يروي ظمأ الروح؛ لأنه شخصٌ يبتسم للصباحات المضيئة وللشمس المزروعة في كفّها، فهي كفيلة بأن تنتزع منه حزن الشتاء ووحشة الليالي الطويلة، وأن تعيد إليه وطنه المستباح وطفولته المفقودة وقلبه الذي غادر على ظهر سحابة زرقاء، ولم يعد إلا في تلك الليلة البيضاء التي رسمتها قطرات من المطر الحزين، وهي ترقص على زجاج البيت، مهما تنازعته الرغبات والأهواء، ومهما مزّقته سهام الآخرين، لكنه يعود في أحضانها طفلاً أخضر،مليئا بحكايا الجدّات،ومزيناً بالكثير من أوراق الزيتون ورائحة البرتقال.
على إيقاع معزوفة ريفية يقودها قطيع من النايات، كان يحلّق في شعرها المتهدل على كتفيها يضيع ويختفي، يضيع ويختفي كفراشة تقتفي أثر زهرة يتيمة في حقل من السنابل البرتقالية.
على أنغام الناي وأهازيج الفلاحين وأناشيد العاشقين في السهوب الخضراء، تدق في أذنيه أجراس البحر والمدن الباردة، فيحلم بوطنه الدافئ وغفوته السرمدية في حضنها.
هو غريب نعم؛ لأنه مزّق خرائط العالم وحطّم دمى الوقت، فيها ابتدأت مسيرته، عنوانه، عطاؤه، من هذا الجسد الرخامي والمشية الحمراء ذات الأنفة الصاخبة والغرور الجميل، من الثغر الوردي والابتسامة التي تسقط عفويّتها على قلبه كورق الشجر الذي تذروه ريح الخريف، كان يولد مرّات ومرّات، ويدخل الحلم كل يوم لا لشيء بل ليدرك أنه مازال حيّاً.
إشارة مؤجلة
اليوم كنت سعيداً حقاً، أبهجتني أغاني الربيع الخضراء، وانتشيت برقص الفاتنات الكرديات على طبول قوقازية، سرحت بنظري في المراعي والسهول، غنّيت للحب والحياة كمحاربٍ أرمني عجوز يرتشف الحكمة من بياض سنينه، لكنني وأنا أصغي إلى إيقاع القلب العميق جاءتني إشارة في غير موعدها، جاءني ذلك الطائر النحاسي بجناحيه الناريين، وعينه الحمراء التي تقطر دماً، واتخذ زاوية في هذه السماء، وهو يحدّق إليَّ من غيمة رمادية بعيدة كأنه يلمس لون الجرح في أناشيد غُربتي.
تُرى هل سيكون الربيع القادم غائماً وحزيناً؟، هل سترتدي الأرض وشاح الخريف الأصفر وهي ترقص على إيقاع الموت؟، هل ستكون الشمس قاتمة ومرعبة في الربيع القادم؟، أم أنني كنت مخطئاً في اصطياد حلم عابر قد يأتي يوماً وقد لا يأتي..؟؟
سيرة الملك القبيس بن صعصعة
مالم تذكره العرب في أسفارها وأشعارها... القبيس بن صعصعة... ملك ملوك الأرض وأشدهم بطشاً على وجه الإطلاق؛ إن بلاده المسورة بالرؤوس المعلقة على الرماح، بلاده المسورة بالنار والأشباح؛ صارت غبارا أحمر تذروه ريح الشمس. بلاد تهاوت معابدها وآلهتها، وجفت أنهارها الحمراء. ففي الليلة الثالثة والثلاثين بعد الألف الثالثة كان القبيس بن صعصعة ملك ملوك الأرض وآخر ملوك الأرض مارداً... جباراً يرتق السماء بأصابعه، يشرب البحار، يحرث الجبال بمنجله، يصارع الغيم بساعده، يلبس القمر تاجاً، والنجوم سوارا، وعندما أراد أن يبتلع الأرض؛ عاد إلى الرماد وصار أصغر من قشة في مهب الريح وأكبر من حلم طائر.
كان يرى نور العالم من خلالها، ويرى تلك النافذة البعيدة التي تمنحه عبق الحقيقة والجمال، إن سقطت دمعته يوماً على التراب؛ أنبتت زهوراً تترنّم باسمها الحالم.
كان يرى في ابتسامتها مطراً من البلّور الشفاف الذي يروي ظمأ الروح؛ لأنه شخصٌ يبتسم للصباحات المضيئة وللشمس المزروعة في كفّها، فهي كفيلة بأن تنتزع منه حزن الشتاء ووحشة الليالي الطويلة، وأن تعيد إليه وطنه المستباح وطفولته المفقودة وقلبه الذي غادر على ظهر سحابة زرقاء، ولم يعد إلا في تلك الليلة البيضاء التي رسمتها قطرات من المطر الحزين، وهي ترقص على زجاج البيت، مهما تنازعته الرغبات والأهواء، ومهما مزّقته سهام الآخرين، لكنه يعود في أحضانها طفلاً أخضر،مليئا بحكايا الجدّات،ومزيناً بالكثير من أوراق الزيتون ورائحة البرتقال.
على إيقاع معزوفة ريفية يقودها قطيع من النايات، كان يحلّق في شعرها المتهدل على كتفيها يضيع ويختفي، يضيع ويختفي كفراشة تقتفي أثر زهرة يتيمة في حقل من السنابل البرتقالية.
على أنغام الناي وأهازيج الفلاحين وأناشيد العاشقين في السهوب الخضراء، تدق في أذنيه أجراس البحر والمدن الباردة، فيحلم بوطنه الدافئ وغفوته السرمدية في حضنها.
هو غريب نعم؛ لأنه مزّق خرائط العالم وحطّم دمى الوقت، فيها ابتدأت مسيرته، عنوانه، عطاؤه، من هذا الجسد الرخامي والمشية الحمراء ذات الأنفة الصاخبة والغرور الجميل، من الثغر الوردي والابتسامة التي تسقط عفويّتها على قلبه كورق الشجر الذي تذروه ريح الخريف، كان يولد مرّات ومرّات، ويدخل الحلم كل يوم لا لشيء بل ليدرك أنه مازال حيّاً.
إشارة مؤجلة
اليوم كنت سعيداً حقاً، أبهجتني أغاني الربيع الخضراء، وانتشيت برقص الفاتنات الكرديات على طبول قوقازية، سرحت بنظري في المراعي والسهول، غنّيت للحب والحياة كمحاربٍ أرمني عجوز يرتشف الحكمة من بياض سنينه، لكنني وأنا أصغي إلى إيقاع القلب العميق جاءتني إشارة في غير موعدها، جاءني ذلك الطائر النحاسي بجناحيه الناريين، وعينه الحمراء التي تقطر دماً، واتخذ زاوية في هذه السماء، وهو يحدّق إليَّ من غيمة رمادية بعيدة كأنه يلمس لون الجرح في أناشيد غُربتي.
تُرى هل سيكون الربيع القادم غائماً وحزيناً؟، هل سترتدي الأرض وشاح الخريف الأصفر وهي ترقص على إيقاع الموت؟، هل ستكون الشمس قاتمة ومرعبة في الربيع القادم؟، أم أنني كنت مخطئاً في اصطياد حلم عابر قد يأتي يوماً وقد لا يأتي..؟؟
سيرة الملك القبيس بن صعصعة
مالم تذكره العرب في أسفارها وأشعارها... القبيس بن صعصعة... ملك ملوك الأرض وأشدهم بطشاً على وجه الإطلاق؛ إن بلاده المسورة بالرؤوس المعلقة على الرماح، بلاده المسورة بالنار والأشباح؛ صارت غبارا أحمر تذروه ريح الشمس. بلاد تهاوت معابدها وآلهتها، وجفت أنهارها الحمراء. ففي الليلة الثالثة والثلاثين بعد الألف الثالثة كان القبيس بن صعصعة ملك ملوك الأرض وآخر ملوك الأرض مارداً... جباراً يرتق السماء بأصابعه، يشرب البحار، يحرث الجبال بمنجله، يصارع الغيم بساعده، يلبس القمر تاجاً، والنجوم سوارا، وعندما أراد أن يبتلع الأرض؛ عاد إلى الرماد وصار أصغر من قشة في مهب الريح وأكبر من حلم طائر.