نقد / العدالة الغائبة... في مجموعة «تمهّل أيها الفأس» للشاعر فيصل الرحيل (2)

تصغير
تكبير
... من الأسئلة الأخلاقية في الديوان تساؤل حول وجود العدالة، ومخاطبة السماء رمز هذه العدالة، وهي فكرة موجودة مسبقا بالشعر، استدعاها الشاعر هنا، مثلما استدعاها محمود درويش في إحدى قصائده.

والتناص ينبثق من حالة شك مشتركة بين الشاعرين لظروف سياسية متقاربة الأثر، تشك بوجود العدالة أساسا، فالشاعر هنا لا يسأل عن العدل بشكل مطلق، ولكنه يتمنى قليلا من العدل، صدمة الشاعر من هذا العنف المستشري تجعله يتساءل عن حقيقة وجود العدالة في هذا الكون.

وفي القصيدة يقول «صلاتي مؤجلة»، وهو ما يثير بعض التساؤلات:

1 - عندما يشترط الشاعر للصلاة شرطا، هذا يجعلنا نفكر كقراء مثقلين بالحساسية الدينية ما الذي يقصده الشاعر بالصلاة هنا، هل هي صلاة العبادة المطلوبة من المؤمن، أم رمز للعمل، فالعمل نوع من العبادة، لذا قد يقصد الشاعر أن عملي في إعمار الكون مؤجل حتى تنتشر العدالة وتنتهي الحرب، ويعم السلام، فأستطيع بعدها الصلاة.

2 - غير ذلك سيكون من باب الاشتراط أن يأتي العدل ومن ثم الصلاة، وهو مما لا يصح للعبد أن يشترط على ربه.

3 - ولكن قد نحصل على فهم مغاير عندما نقرؤها على أنها انفصال ذات الشاعر الرحيل السعودي المسلم وهي جزء من المعلومات الشخصية الخاصة به، واتصالها بذات ثقافية جمعية أخرى ليبرالية علمانية تنفصل عن واقعها الروحاني وتشددها وقت كتابة القصيدة، وتقول ما تفكر به وتتأمله لحظة ولادة القصيدة.

4 - وفي أفضل الحالات التأويلية تكون عبارة «صلاتي مؤجلة» من قبيل أن المؤمن عندما تنتابه بعض حالات اليأس وفي سطوة بعض الأوقات السوداوية دائما يتساءل عن فكرة العبادة وجدوى العمل الصالح ما دام هو يعيش معزولا عن العدل والرحمة وبقية التفاصيل الإنسانية الاعتيادية لأنه في نص آخر في المجموعة، يدعو الله ويطلب منه الخلاص والتحرر:

نقد ثقافة الصحراء:

من دائرة التقاط صور الغرقى والموتى والإحساس بفقدان العدالة، تأتي معضلة أخرى يواجها الشاعر وهي ثقافة المجتمع الهشة والعاجزة عن التغيير الحقيقي، في النص التالي كما غيره من النصوص يتساءل:

كيف يمكن

أن تشعل شمعة يا كونفوشيوس

وهذا العالم يعبد الظلام

كيف تهرب منهم (ص: 58)

من ثيمة العدالة الاجتماعية، ينتقل الشاعر لنقد الثقافة العامة للمجتمع. في سياق ثقافي يعبد الجهل ويغيب الفكر ورموزه كالسياق الثقافي العربي يتساءل الشاعر بحيرة ويأس كيف من الممكن أن يولد كونفوشيوس جديد (الفيلسوف الصيني الذي حاول نشر مدينة فاضلة في القرن السادس ما قبل الميلاد) في أرض غير صالحة لزراعة الأفكار التنويرية ولا ينتشر الضوء، فالشمعة/‏ رمز التنوير، من غير الممكن اشعالها وسط مجاميع إنسانية تعبد الظلام، يخرج من بينها داعش، كأسوأ النماذج للتخلف والجهل وغياب العقل وعبادة الظلام، التي تعد فعل خنوع واستسلام لعدم تحمل تبعات النور ومواجهة الظلم بشجاعة واستبسال وتحمل كل ما يترتب عليه من نتائج من قبل رموز الظلام.

ثقافة الصحراء، ومعاناة الشاعر النفسية من ثقافة الصحراء واضحة جدا في المجموعة، حيث القحط والغيمة التي لا تمطر، مثلما ورد في «صلاة استسقاء في جزيرة العرب»، إذ يقول مستخدما الدلالة التقريرية:

أسير

لا شيء يؤلمني

أنا البدوي في الصحراء

سوى أن أحدق عاليا

لأرى نهرا معلقا

في رحم الغمامة

وأنا أموت من الظمأ. (ص: 73)

من خلال الدلالة التقريرية التأكيدية، يعرض الشاعر ضلاله لطريقه، لاستخدامه وسيلة خاطئة، ومضللة. البوصلة العاطلة هي الأداة الخطأ في طريق الاكتشاف. هذا التساؤل يأتي في حالة لوم الذات بعد فشل التجربة:

لماذا وأنت تجلس في الصحراء

لم تستدل على الطريق

إلا من خلال بوصلة عاطلة؟ (ص: 61)

محاسبة الماضي تأتي هنا بمرارة للتأكيد على حالة ضياع فرصة حقيقية في بناء مجتمع وإيجاد طريقه الحقيقي الذي يوصله للمسار الصحيح... كل هذا سيجد طريقه في بعض القصائد اللاحقة معاولا تساعد في بناء الذات من جديد من خلال فلسفة الشك، وتدمير اليقين السائد لصنع ثقافة مستقبلية.

في عتاب الوطن

في تناص مع قصيدة محمود درويش «ليس للكردي إلا الريح»، يقوم الشاعر بمقاربة حالتين متماثلتين رغم اختلاف ظروفهما التاريخية والاجتماعية، بنقده للوطن وما آل إليه حال المواطن الذي أصبح كالكردي، الذي كان مشتتا وضائعا في الكون. والشاعر رغم تشبثه بوطنه يعاني من قسوة الوطن على أبنائه هو يستعير تجربة الكردي ليبرز التماثل بين الحالتين، وتشابه المآل لكليهما رغم اختلاف الملابسات التاريخية والاجتماعية، فالشاعر من إثنية مختلفة تفترض نهاية مغايرة إلا أن الأوطان تقوم بنفس الدور للاثنين للكردي وله، فصورة الكردي تعيد نفسها بظروف مختلفة، وكأن النموذج الكردي قابل للتطبيق على حالة المواطن العربي كما قال المحامي دوخي الحصبان في إحدى النبوءات السوداوية: «كلنا مشاريع لجوء»:

لست كرديا

فما لي وما للريح تحفر لي

هذا القبر في الهواء الطلق

وتردمني بغبار أبنية قديمة (ص: 65)

لماذا يا وطني

تضيق بنا

جميعا

ملايين الكيلو مترات

من التراب

وغرفة واحدة

في قطار مهاجر

تتسع؟! (ص: 67)

من المفارقات المرصودة، في النص السابق أن المساحات الشاسعة في وطن الشاعر، لا تتسع لمواطن، بينما المهاجر يجد التعايش والاتساع بحيز صغير جدا كغرفة في قطار، بالطبع هذا ناتج عن الثقافة الموجودة في كل من الفضاءين، فالثقافة في المكان الأول طاردة بتخلفها الإنساني ونظم معرفتها وممارساتها الإقصائية. أما الثقافة في الحيز الثاني جاذبة بتعدديتها، وتسامحها وقبولها للمختلف، وهذا لم يصرح به الشاعر بشكل مباشر ولكن عبر الإيحاء، ومن خلال قراءة خارجية للظروف الثقافية للمكانين المشار إليهما.

* ناقدة وكاتبة كويتية

- فيصل الرحيل، «تمهل أيها الفأس... إن نصفك شجرة»، دار مسعى، الطبعة الأولى، 2014م.

[email protected]
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي