مشاهد / الكتاب الأول (2)

| يوسف القعيد |


كان من الصعب على جمال الغيطاني، تدبير مبلغ 35 جنيهًا، وهو في ذلك الوقت مبلغ كبير؛ يمكن لشاب أن يبدأ حياته به.
ولم تكن لدينا ثقة في خرافة التوزيع. بمعنى أن الكتاب الذي نطبعه لجمال أو لي يمكن أن يوزع ويكون لهذا التوزيع عائد. فضلاً عن أن أسعار الكتب كانت رخيصة جدّا، وكان من الصعب أن نعثر على موزع يقبل أن يغامر بتوزيع الكتاب.
كان موقف سمير ندا، هو موقف جمال نفسه. فسمير ندا لا يعمل في ذلك الوقت. كان شابّا يريد تغيير العالم إلى الأحسن، ويريد مواجهة كل سلبيات الواقع في مصر بالعمل الجاد وليس بالاكتفاء بالشكوى، أو أن يندب حظه أو أن يحسد الأغنياء على ما بأيديهم من أموال.
اقترحت على «جمال»، أن يحصل على سُلفة مالية من عمله في مؤسسة التعاون الإنتاجي. وكان ذلك مستحيلاً، لسبب بسيط أنه لم يكن مُعينا ومُثبتا على وظيفة بعينها، وله راتب ثابت يحصل عليه أول كل شهر يمكن أن يخصم المبلغ الذي سيقترضه منه بعد أن يقسط على عدد من الشهور.
وكانت مصر في ذلك الزمان البعيد ـ أواخر الستينيات ـ منضبطة، وما يقر في القوانين العامة ينفذ، ربما بسبب تضخم البيروقراطية. ربما يعود هذا لقوة الدولة أمام المواطنين. أسباب كثيرة متنوعة حالت من دون أن يحصل «جمال» على سُلفة مالية يسددها من راتبه. مهما كانت المبررات والأسباب، إلا أن هذه كانت هي النتيجة.
كنت مجندا في وحدة عسكرية. سألت قائد الوحدة إن كان ممكنا أن أحصل على سُلفة مالية.
واكتشفت أن الأوضاع داخل وحدة عسكرية لا تقل صرامة في التعامل المالي عن الجهات المدنية، ولم يكن مطروحا بالنسبة لمجند يقضي فترة عابرة في وحدته العسكرية كجزء من مدة خدمته أن يحصل على سُلفة مالية يسددها.
ربما كان ذلك متاحا للضباط، ولصف الضباط، وللمتطوعين الذين يقضون سنوات طويلة في الخدمة.
أعترف أنني في ذلك الوقت لم أسأل عن غيري من أصحاب الخدمة الدائمة والمستديمة من الضباط وصف الضباط والمدنيين وحقهم في الحصول على سُلفة مالية وحرماني من هذا الحق لأنني عابر ولن أستمر طويلا في وحدتي.
ضاقت بي الحال.. ففكرت في الإمكانات المتاحة أمامي في قاهرتي التي لم تكن قاهرتي، بمعنى أنني لم أكن أمتلكها، ربما تصورت أنها تقهرني.. فذهب خيالي فورا إلى قريتي. فكرت عندما أنزل إجازتي الأولى أن أتصرف هناك لعلي أجد هذا المبلغ.
لا يذهب خيال أحد أنني كنت أنتمي لأسرة غنية، ولم نكن من ملاك الأراضي الزراعية ولا من الأعيان. كانت أسرتي ولاتزال من فقراء الريف المصري. يعمل والدي بالتجارة. وكنوع من اختصار الطرق؛ قرر أن يزرع الخضراوات والفواكه في قرية قريبة من قريتنا حتى يأخذ المحصول ويبيعه في مدينة الإسكندرية، ومع هذا لم يمنعني حال أسرتي من المحاولة.
كنت أحصل على إجازة بشكل دوري لا تقل عن 48 ساعة.. وهذا هو التعبير العسكري لإجازة اليومين. سافرت إلى القرية وفاتحت أمي ـ يرحمها الله رحمة واسعة ـ في الأمر، وقالت لي إن هناك استحالة أن أتحدث مع والدي في الحكاية، ليس بسبب أن يرفض؛ لكن ربما يغضب من مجرد طلب هذا المبلغ الكبير منه.
لكنها ـ مثل كل الأمهات؛ حيث نبع الحنان والحب، وحيث من المؤكد أن نجد عندها كل ما نبحث عنه في الحياة، حتى لو لم نطلبه منها. قالت لي إن لديها مبلغا من المال ادخره والدي للظروف الصعبة التي يمكن أن نمر بها: مرض، أو احتياج، أو أزمة مفاجئة، أو مشكلة في البيت أو الحقل. وحتى لا تمتد يده على هذا المبلغ تركه عندها، وطلب منها عدم الاقتراب منه مهما كانت المبررات، وكرر الجُملة الأخيرة بعاميّته المعروفة في قريتنا ثلاث مرات.
أنا متأكد أن أمي لم تفهم في ذلك الحين أهمية طباعة كتاب بالنسبة لشاب، وماذا يعني ذلك؟، فقد عاشت وماتت وهي لا تقرأ ولا تكتب، وما وصلها مما كتبته كان عبر تحويله إلى أشكال فنية أخرى؛ خصوصا المسلسلات الإذاعية التي كانت تسمعها في الراديو في بيتنا أو المسلسلات التليفزيونية، أما أفلام السينما فلم ترها إلا عندما تم عرضها في التليفزيونات، ولكن تبقى العلاقة بين أول كتاب لشاب يطبع وكل هذه الأشكال الفنية التي توصلت إليها فيما بعد، فلم يكن المعنى قائما في ذهنها.
ومع هذا؛ حاولت أن تساعدني.. كنت أكبر أبنائها. لي أشقاء ولدوا قبلي، لكنهم رحلوا عن الدنيا. البعض منهم مات ميتة طبيعية. والآخر توفاه الله في وباء الكوليرا الذي هبّ على مصر في أربعينيات القرن الماضي. وكانت سعيدة لأنني عشت. وامتد عمري. وأصبحت أكبر إخوتي. وكانت تقول لي إنني اُعتبر أخّا لها؛ خصوصا أنها كانت وحيدة وليس لها أخ أو أخت. وعندما تقدم بها العمر كانت تقول لأبي:
«إن كبر ابنك خاويه».
عدت إلى القاهرة ومعي كنز الكنوز. ربما كان أكبر مبلغ وضعته في جيبي حتى أيامها 35 جنيها. كل جنيه «ينطح» جنيه. يمكن أن تفعل بالإنسان ما لا يتصوره إنسان. ولو حتى بعين الخيال. أضفت المبلغ لما كان قد دفعه سمير ندا، ودخلت مجموعة: «أوراق شاب عاش منذ ألف عام» المطبعة.
لم يكن جمال قادرا على تصور ما يراه أمامه.. صحيح أنه ينتمي إلى الصعيد، إلى قرية «جهينة» في محافظة سوهاج بصعيد مصر الجوّاني. ولكنه عاش طفولته وصباه وشبابه هنا في القاهرة. بالتحديد في حي الجمّالية، بالقرب من مولانا سيدنا الحسين، الذي اعتبره «جمال» أحد أبطال كتابه الكبير: «التجليات»، الذي حكى فيه عن حياته بحُرّية تامة كجزء من محاولة سرد قصة الحياة عبر أبطال عمره: والده، جمال عبدالناصر، سيدنا الحسين، محيي الدين بن عربي.
ولأنني ابن قرية وأومن جدّا بالتفاؤل والتشاؤم، ففي الشهر الذي أحضرت المبلغ من أمي؛ تم استبقائي للخدمة بالقوات المسلحة، وتضاعف راتبي ثلاث مرات.
أصبح يتجاوز العشرين جنيها في الشهر. وهو مبلغ خرافي. لذلك سددت لها الدَّين الذي أخذته منها سرّا. ما حصلت عليه على دفعات.
ولم تكن لدينا ثقة في خرافة التوزيع. بمعنى أن الكتاب الذي نطبعه لجمال أو لي يمكن أن يوزع ويكون لهذا التوزيع عائد. فضلاً عن أن أسعار الكتب كانت رخيصة جدّا، وكان من الصعب أن نعثر على موزع يقبل أن يغامر بتوزيع الكتاب.
كان موقف سمير ندا، هو موقف جمال نفسه. فسمير ندا لا يعمل في ذلك الوقت. كان شابّا يريد تغيير العالم إلى الأحسن، ويريد مواجهة كل سلبيات الواقع في مصر بالعمل الجاد وليس بالاكتفاء بالشكوى، أو أن يندب حظه أو أن يحسد الأغنياء على ما بأيديهم من أموال.
اقترحت على «جمال»، أن يحصل على سُلفة مالية من عمله في مؤسسة التعاون الإنتاجي. وكان ذلك مستحيلاً، لسبب بسيط أنه لم يكن مُعينا ومُثبتا على وظيفة بعينها، وله راتب ثابت يحصل عليه أول كل شهر يمكن أن يخصم المبلغ الذي سيقترضه منه بعد أن يقسط على عدد من الشهور.
وكانت مصر في ذلك الزمان البعيد ـ أواخر الستينيات ـ منضبطة، وما يقر في القوانين العامة ينفذ، ربما بسبب تضخم البيروقراطية. ربما يعود هذا لقوة الدولة أمام المواطنين. أسباب كثيرة متنوعة حالت من دون أن يحصل «جمال» على سُلفة مالية يسددها من راتبه. مهما كانت المبررات والأسباب، إلا أن هذه كانت هي النتيجة.
كنت مجندا في وحدة عسكرية. سألت قائد الوحدة إن كان ممكنا أن أحصل على سُلفة مالية.
واكتشفت أن الأوضاع داخل وحدة عسكرية لا تقل صرامة في التعامل المالي عن الجهات المدنية، ولم يكن مطروحا بالنسبة لمجند يقضي فترة عابرة في وحدته العسكرية كجزء من مدة خدمته أن يحصل على سُلفة مالية يسددها.
ربما كان ذلك متاحا للضباط، ولصف الضباط، وللمتطوعين الذين يقضون سنوات طويلة في الخدمة.
أعترف أنني في ذلك الوقت لم أسأل عن غيري من أصحاب الخدمة الدائمة والمستديمة من الضباط وصف الضباط والمدنيين وحقهم في الحصول على سُلفة مالية وحرماني من هذا الحق لأنني عابر ولن أستمر طويلا في وحدتي.
ضاقت بي الحال.. ففكرت في الإمكانات المتاحة أمامي في قاهرتي التي لم تكن قاهرتي، بمعنى أنني لم أكن أمتلكها، ربما تصورت أنها تقهرني.. فذهب خيالي فورا إلى قريتي. فكرت عندما أنزل إجازتي الأولى أن أتصرف هناك لعلي أجد هذا المبلغ.
لا يذهب خيال أحد أنني كنت أنتمي لأسرة غنية، ولم نكن من ملاك الأراضي الزراعية ولا من الأعيان. كانت أسرتي ولاتزال من فقراء الريف المصري. يعمل والدي بالتجارة. وكنوع من اختصار الطرق؛ قرر أن يزرع الخضراوات والفواكه في قرية قريبة من قريتنا حتى يأخذ المحصول ويبيعه في مدينة الإسكندرية، ومع هذا لم يمنعني حال أسرتي من المحاولة.
كنت أحصل على إجازة بشكل دوري لا تقل عن 48 ساعة.. وهذا هو التعبير العسكري لإجازة اليومين. سافرت إلى القرية وفاتحت أمي ـ يرحمها الله رحمة واسعة ـ في الأمر، وقالت لي إن هناك استحالة أن أتحدث مع والدي في الحكاية، ليس بسبب أن يرفض؛ لكن ربما يغضب من مجرد طلب هذا المبلغ الكبير منه.
لكنها ـ مثل كل الأمهات؛ حيث نبع الحنان والحب، وحيث من المؤكد أن نجد عندها كل ما نبحث عنه في الحياة، حتى لو لم نطلبه منها. قالت لي إن لديها مبلغا من المال ادخره والدي للظروف الصعبة التي يمكن أن نمر بها: مرض، أو احتياج، أو أزمة مفاجئة، أو مشكلة في البيت أو الحقل. وحتى لا تمتد يده على هذا المبلغ تركه عندها، وطلب منها عدم الاقتراب منه مهما كانت المبررات، وكرر الجُملة الأخيرة بعاميّته المعروفة في قريتنا ثلاث مرات.
أنا متأكد أن أمي لم تفهم في ذلك الحين أهمية طباعة كتاب بالنسبة لشاب، وماذا يعني ذلك؟، فقد عاشت وماتت وهي لا تقرأ ولا تكتب، وما وصلها مما كتبته كان عبر تحويله إلى أشكال فنية أخرى؛ خصوصا المسلسلات الإذاعية التي كانت تسمعها في الراديو في بيتنا أو المسلسلات التليفزيونية، أما أفلام السينما فلم ترها إلا عندما تم عرضها في التليفزيونات، ولكن تبقى العلاقة بين أول كتاب لشاب يطبع وكل هذه الأشكال الفنية التي توصلت إليها فيما بعد، فلم يكن المعنى قائما في ذهنها.
ومع هذا؛ حاولت أن تساعدني.. كنت أكبر أبنائها. لي أشقاء ولدوا قبلي، لكنهم رحلوا عن الدنيا. البعض منهم مات ميتة طبيعية. والآخر توفاه الله في وباء الكوليرا الذي هبّ على مصر في أربعينيات القرن الماضي. وكانت سعيدة لأنني عشت. وامتد عمري. وأصبحت أكبر إخوتي. وكانت تقول لي إنني اُعتبر أخّا لها؛ خصوصا أنها كانت وحيدة وليس لها أخ أو أخت. وعندما تقدم بها العمر كانت تقول لأبي:
«إن كبر ابنك خاويه».
عدت إلى القاهرة ومعي كنز الكنوز. ربما كان أكبر مبلغ وضعته في جيبي حتى أيامها 35 جنيها. كل جنيه «ينطح» جنيه. يمكن أن تفعل بالإنسان ما لا يتصوره إنسان. ولو حتى بعين الخيال. أضفت المبلغ لما كان قد دفعه سمير ندا، ودخلت مجموعة: «أوراق شاب عاش منذ ألف عام» المطبعة.
لم يكن جمال قادرا على تصور ما يراه أمامه.. صحيح أنه ينتمي إلى الصعيد، إلى قرية «جهينة» في محافظة سوهاج بصعيد مصر الجوّاني. ولكنه عاش طفولته وصباه وشبابه هنا في القاهرة. بالتحديد في حي الجمّالية، بالقرب من مولانا سيدنا الحسين، الذي اعتبره «جمال» أحد أبطال كتابه الكبير: «التجليات»، الذي حكى فيه عن حياته بحُرّية تامة كجزء من محاولة سرد قصة الحياة عبر أبطال عمره: والده، جمال عبدالناصر، سيدنا الحسين، محيي الدين بن عربي.
ولأنني ابن قرية وأومن جدّا بالتفاؤل والتشاؤم، ففي الشهر الذي أحضرت المبلغ من أمي؛ تم استبقائي للخدمة بالقوات المسلحة، وتضاعف راتبي ثلاث مرات.
أصبح يتجاوز العشرين جنيها في الشهر. وهو مبلغ خرافي. لذلك سددت لها الدَّين الذي أخذته منها سرّا. ما حصلت عليه على دفعات.