كم يمكن للأزمة المالية العالمية أن تعيش؟



مع اقتراب المجتمع الاقتصادي العالمي من نهاية الربع الثالث من السنة المالية 2008، والتي شهدت أحداثاً اقتصادية كبيرة وصفت بالتاريخية، كالارقام القياسية التي لامستها أسعار النفط والذهب العالمية، وارتفاع نسب التضخم في معظم دول العالم، الاستقالات المتكررة ومن «العيار الثقيل» في المؤسسات المالية العالمية الكبرى والتي أظهرت حالة التخبط التي تعيشها هذه المؤسسات في سعيها لايجاد حلول جذرية وسريعة للأزمة، التسريح العمالي «الجماعي» الذين طبق في أكبر المصانع والشركات في العالم، اضافة الى الهزات المتعددة التي تعرضت لها الاسواق المالية.
كل هذه الاحداث والازمات تطرح سؤالاً يصعب على المحللين الاقتصاديين اعطاء اجابة واضحة عنه،وهو «التنبؤ» بالمدة الزمنية التي ستستغرقها هذه «الغيمة السوداء» للعبور فوق الاجواء الاقتصادية العالمية لتعود الاوضاع الى ما كانت عليه من قبل.
وتتحدث المقالة التي نشرها موقع «مورغان ستانلي»، والتي ترتكز على دراسات أعدها اقتصاديون من جامعة هارفرد وصندوق النقد الدولي، فترات الركود الاقتصادي والازمات التي شهدها الاقتصاد العالمي تاريخياً، والعوامل المختلفة التي كان لها الاثر المباشر وغير المباشر على عمق وقوة ومدة هذه الازمات، مؤكدة أن جميع المؤشرات تدل على أن الازمة الحاصلة اليوم هي من أقوى الازمات لتزامنها مع أزمة الرهن العقاري الاميركية وارتفاع أسعار النفط مع فارق وحيد تمثل في وسائل الدفاع «الشرسة» والسريعة التي اعتمدتها السياسة المالية والنقدية الاميركية للتصدي لهذه الازمة.
وفي ما يلي نص المقالة:
مخاطر انهيار الاقتصادات
في دول مجموعة السبع تظهر بوضوح
انخفض الناتج المحلي الاجمالي الياباني بنسبة 0.6 في المئة في النصف الاول من العام 2008، كما من المرجح أن تُظهر بيانات الناتج المحلي الاجمالي لـ «منطقة اليورو» انكماشاً واضحاً في أداء هذا الناتج. في حين يستمر الاقتصاديون الاميركيون بالتنبؤ بإنخفاض الناتج المحلي الاجمالي في بلدهم لربعين متتاليين بدءاً من نهاية السنة المالية الحالية.ويبدو أن النتيجة الاكثر احتمالاً هي ركود اقتصادي موسع يستمر حتى العام 2008. غير أن النتيجة الأسوأ تحمل أكثر من فرضية وتحليل. لذلك، نسعى في هذه المقالة بالعودة قليلاً الى الماضي، وسرد التطورات التاريخية والانهيارات المتتالية التي شهدتها الاقتصادات العالمية المتعددة،والتحدث عن عمق ومدة واستمرارية هذه الانهيارات تاريخياً، ومدى قوة وحدة هذه الازمات سواء تزامنت مع أزمات مالية أخرى كانهيار أسعار الاسهم والعقارات والانكماشات الاقتصادية أو حدثت منفردة،
احتمال الكوارث عالمياً 3.6 في المئة سنوياً
الدراسة التي أعدها اقتصاديو جامعة هارفرد وصندوق النقد الدولي لا تركز على «الحديقة المتنوعة» من أنواع الركود وانما على الكوارث الحقيقية التي تصيب الاقتصاد الكلي عامةً، والتي تعرف بالانخفاضات التراكمية في متوسط حصة الفرد من الاستهلاك الحقيقي أو الانخفاض التراكمي لمتوسط حصة الفرد من الناتج المحلي الاجمالي بنسب تصل الى 10 في المئة على الاقل.وقد كانت هذه الكوارث المماثلة قليلة جداً في العقود الماضية، خصوصاً في الاقتصادات المتقدمة. انما بالنظر الى بيانات الناتج المحلي الاجمالي لبلدان منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية والبلدان غير الأعضاء بدءاً من العام 1870 الى اليوم، نجد عدداً لا بأس به لا بل عدد مفاجئ من الكوارث الاقتصادية العالمية. وتحديداً لقد تم تعداد 148 كارثة على علاقة بالناتج المحلي الاجمالي،أي ما يعادل 3.6 في المئة احتمال وقوع كارثة سنوياً.
وأظهرت الدراسة أن معدل مدة استمرار الكارثة الاقتصادية يتراوح ما بين 3 سنوات و3 سنوات ونصف السنة، وعادة ما كان ينخفض الناتج المحلي الاجمالي في ذلك الوقت بنسبة 21 في المئة وبطريقة تراكمية. الا أن هذه الارقام تعد «كبيرة» جداً بالنظر الى المعايير الاقتصادية المعتمدة اليوم، ومن الضروري الاشارة في هذا المجال، الى أن حجم هذه الكوارث ظهر قبل العام 1950، والعديد منها كان على علاقة بالحربين العالميتين والكساد الاقتصادي الكبير الذي ضرب العالم عام 1930. وقد شهد النصف الاول من القرن الماضي تقلبات في الاقتصاد الكلي أكثر بكثير من الـ100 سنة التي سبقت بداية القرن والسنوات الخمسون التي تلت نصفه الاول.
كوارث قليلة في العقود الماضية
وتظهر البيانات، أن بلدان منظمة التعاون والتنمية شهدت كارثة واحدة للانخفاض التراكمي للناتج المحلي الاجمالي في الـ 50 سنة الماضية. وقد ظهرت في فنلندا في الفترة ما بين العام 1989 و1993، عندما انخفض الناتج المحلي الاجمالي بنسبة 12.4 في المئة تجاوباً للانهيار التجاري الذي حصل بعد سقوط الاتحاد السوفياتي السابق. غير أن الدول غير الاعضاء في منظمة التعاون والتنمية شهدت العديد من الكوارث الاقتصادية في تلك الفترة، ظهر البعض منها خلال أزمة ديون أميركا اللاتينية في فترة الثمانينات،وأخرى في الأزمة الآسيوية في أواخر التسعينات.
112 ركوداً في بلدان منظمة التعاون والتنمية
منذ العام 1960
عدا عن الحروب والاحداث المأسوية العالمية الاخرى، فان كوارث الاقتصادات الكلية التي تكون بالاحجام الضخمة المذكورة أعلاه من غير المرجح ظهورها في الاقتصادات المتقدمة. ومع ذلك فإن الكوارث العادية الطبيعية هي أبعد ما تكون الاكثر شيوعاً، كما تظهر الدراسة المفصلة والشاملة التي أعدها ثلاثة من اقتصاديي صندوق النقد الدولي مؤخراً. وتبين هذه الدراسة حدوث 112 ركوداً اقتصادياً في 21 بلداً عضواً في منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية منذ العام 1960. بالاضافة، فقد قام الباحثون بدراسة 112 حالة من حالات الانكماش الائتماني، و114 حادث انخفاض في أسعار المنازل و234 انخفاضاً في أسعار الاسهم ومختلف أوجه تداخلاتها وتفاعلاتها مع الكوارث الاقتصادية. وقد أظهرت دراساتهم النتائج التالية:
- الكساد النموذجي استمر لفترة لا تتعدى السنة، وتحديداً 3.6 أرباع من السنة المالية، وينطوي على انخفاض الناتج المحلي الاجمالي بأقل من 2 في المئة. أما أسوأ هذه الكوارث فقد استمرت نحو 4.7 ارباع من السنة المالية بانخفاض تراكمي اجمالي للناتج المحلي وصل الى 5 في المئة.
- من جهة أخرى، فان الانكماش الائتماني في القطاع الخاص، وهبوط أسعار المنازل وأسعار الاسهم استمرت لفترات أطول من كوارث انخفاض الناتج المحلي وبتأثير أكبر.وعلى سبيل المثال، فإن الانكماشات الاقتصادية الاقوى دامت لأكثر من 10 أرباع من السنوات المالية المتلاحقة وتنطوي على انخفاض ائتماني في القطاع الخاص تنازلي بنسبة 17 في المئة. أما الانخفاضات الحادة في أسعار المنازل فقد دامت وبحسب الدراسة نحو 18 ربعاً سنوياً وأظهرت متوسط هبوط في أسعار المنازل قريباً من 30 في المئة.
- كما أن الانكماشات التي تتزامن مع الانكماشات الائتمانية، أو أزمات المساكن أو «تعويم» أسعار الاسهم تستمر لفترة أطول وتحمل خسائر أكبر في الانتاج من الازمات التي تحدث من دون أحداث وعوامل مؤثرة مضافة. وعلى سبيل المثال، فإن الكارثة التي ترافقها أزمة مساكن تدوم نحو 4.6 أرباع من السنة المالية وتعرض هامش تردد بنسبة 2.66 في المئة بينما الكارثة التي تقع منفردة تستمر 3.2 ارباع من السنة المالية بهامش تردد لا يتعدى الـ 1.5 في المئة. في حين أن الكوارث التي يصاحبها ارتفاعات في أسعار النفط أو في نسب التضخم العالمية تكون أعمق وأقوى ولكن ليس بالضرورة أطول من الازمات المنفردة.
وفي النهاية، من الجدير المقارنة بين الانكماش الاقتصادي الحاصل في الولايات المتحدة الاميركية، والذي لم تحدده هويته بعد ان كان ينحصر بالانكماش أو تعداها الى مرحلة الكارثة أو الازمة، والمعدل، الاميركي وغير الاميركي في كوارث بلدان منظمة التعاون والتنمية، ويمكن هنا ملاحظة التالي:
-أولا، فان الناتج المحلي الاجمالي الاميركي، وعلى الرغم من أنه أضعف قليلا من أزمات الكساد النموذجية السابقة، فهو يتبع تقريباً الطريق نفسها.ولذلك فان الحكم ما اذا كان الاقتصاد الاميركي سيشهد أزمة حقيقية أم لا، يبقى غير واضح.
- ثانياً، فان الاستثمار العقاري وتحديدا السكني الاميركي شهد انخفاضاً حاداً وأعمق من الازمات النموذجية السابقة التي حدثت في الولايات المتحدة أو في بلدان منظمة التعاون والتنمية. وهو أمر على علاقة وبوضوح بأزمة الائتمان العقاري التي عصفت بالاقتصاد الاميركي في السنة الماضية وبالهبوط الحاد الذي شهدته أسعار المنازل الاميركية.
- من ناحية أخرى، فان النمو الائتماني الاميركي كان الاقوى قبل الكارثة، الا أنه شهد مؤخراً انخفاضاً حاداً جعله يتوازى مع مرحلة تجارب ما قبل الازمات الاميركية السابقة.
- الاسعار القصيرة الحقيقية سقطت من قبل أكثر بكثير من الازمات السابقة. وهو ما يؤكد النقطة التي كان يُركز عليها كثيراً في السابق ألا وهي أن المجلس الاحتياطي الفيديرالي الاميركي استجاب بشراسة أكبر للانخفاض في أسعار المنازل ولأزمة الرهن العقاري المتصلة به، من استجابته خلال الازمات النموذجية السابقة.
وبالمثل، فان السياسة المالية، والتي تقاس هنا بمعدل النمو الحقيقي للاستهلاك الحكومي، توسعت أكثر مما كانت تفعل أثناء الازمات السابقة.
الى أين ممكن أن يصل بنا كل ما ذكر في السابق؟
اذا كانت الاحداث التاريخية أمثلة يحتذى بها، فهي تدلنا على أن الكساد أو الركود الاقتصادي، في حال حدوثه، يمكن التوقع أن يكون أطول وأعمق من المعتاد لأنه يتزامن مع حدوث أزمة الرهن العقاري والهبوط الحاد في أسعار المساكن، وعلاوة على ذلك واستناداً الى التجارب التاريخية أيضاً، فإن أسعار النفط العالية والتي أنتجت ارتفاعات عالمية في نسب التضخم، تشير بدورها الى أزمة كساد أعمق وأطول. ومع ذلك فهناك أمر واحد ومهم يميز هذه الازمة عن سابقاتها وهو أن السياسة المالية والنقدية الاميركية كانت أكثر استباقية و«عدوانية» تجاه التصدي لعلامات التباطؤ الاقتصادي التي ظهرت مبكرة. ووحده عامل الوقت يظهر الدور الذي تلعبه هذه التطورات المتباينة. وهناك أمر اخر واضح أيضاً: مع سعر برميل النفط الذي انخفض الى 113 دولاراً بعد أن وصل الى 145 دولاراً في الشهر الماضي، فان توقعات النمو للدول الكبرى المستوردة للنفط تبقى أقل قتامة مما كانت عليه.
عن «مورغان ستانلي»