الملك عبد العزيز مخاطباً روزفلت: امنحوا أرض ألمانيا لليهود ... أنتم من عذبوهم وليدفع العدو الظالم الثمن



في فبراير 1945 وقبل أن تضع الحرب العالمية الثانية أوزارها كان الملك عبدالعزيز آل سعود والرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت يلتقيان في البحيرات المرة على خليج السويس في مصر. فهل كانت هذه اللقاءات بين الملك والرئيس حدثاً تاريخياً؟
الكاتب المصري ممدوح الشيخ يحاول الإجابة عن هذا السؤال من خلال تقديمه وإعداده لكتاب وليام إيدي المعنون «القمة الأميركية - السعودية الأولى: القمة السرية بين الملك عبد العزيز آل سعود والرئيس روزفلت 1945» من خلال وثيقة لأول وزير مفوض أميركي في الرياض، وأوراق أخرى لسياسيين وديبلوماسيين.
الشيخ في كتابه نقل عن أحد أهم السياسيين في القرن العشرين لي كوان يو، رئيس وزراء سنغافورة في الفترة من 1959 - 1990، مشيراً إلى أن «التفاهم الذي توصل إليه روزفلت والملك عبدالعزيز على ظهر السفينة الحربية كوينسي، لم يكن قليل الأهمية، فقد كان أساس الاستقرار في الخليج، وهي منطقة مضطربة ولكنها حيوية، في الـ 63 عاماً الماضية. وعاشت معاهدة كوينسي ثلاث حروب عربية - إسرائيلية، واستمرار النزاعات ذات الكثافة المحدودة بين العرب والإسرائيليين».
وفضلاً عن أهميتها الاستراتيجية اكتسبت هذه القمة أهمية رمزية كبيرة حتى بعد مرور أكثر من نصف قرن عليها، وفي الذكرى الـ 60 لانعقادها أقامت «جمعية أصدقاء السعودية» حفلاً حضره حفيد الرئيس الأميركي روزفلت وعدد من بحارة السفينتين «يو إس إس كوينسي» و«يو إس إس ميرفي» الذين شهدوا اللقاء. وألقى الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون كلمة وصف فيها القمة بأنها وضعت «بذرة علاقات الصداقة بين البلدين».
الرئيس والملك
يحمل الفصل الأول من الكتاب عنوان: «الرئيس والملك»، وهو مخصص للتعريف بهما، أي الملك عبدالعزيز والرئيس روزفلت، أما الفصل التالي فعنوانه: «المملكة والغرب: نظرة عامة» وفيه يمهد ممدوح الشيخ للقمة باستعراض أهم ملامح العلاقة بين المملكة والغرب، فهو كان يلمس عن قرب مدى قوة بريطانيا وتفوقها على كل من الدولة العثمانية والدول الأوروبية الأخرى المنافسة لها، أي روسيا وألمانيا وفرنسا.
وقد كُشف النقاب أخيراً عن تفاصيل جديدة مهمة في شأن الموقف البريطاني من القضية الفلسطينية، وهي القضية التي سوف تصبح مؤثراً رئيساً في العلاقات بين السعودية والقوى الغربية الرئيسة بريطانيا ثم أميركا، فقد نشرت وثائق بريطانية في شأن فلسطين - كُشف عنها أخيراً - تعود إلى زمن الحرب العالمية الثانية أظهرت وجود مناقشات بين رئيس الوزراء البريطاني وقتها ونستون تشرشل والرئيس الإسرائيلي المستقبلي حاييم وايزمان أدت إلى خلاف وتبادل جاف للرسائل مع وزير الخارجية البريطاني أنتوني إيدن.
الوكالة اليهودية
وقد قدم فكرة المساعدة في إنشاء الدولة الإسرائيلية إلى تشرشل رئيس الوكالة اليهودية في وقتها، حاييم وايزمان، وهي الوكالة التي كانت مسؤولة عن الشؤون اليهودية في فلسطين تحت انتداب عصبة الأمم، وكان تشرشل متعاطفاً مع القضية اليهودية كما كان مؤيداً لوعد بلفور.
لكن إيدن، المعروف بهدوئه وديبلوماسيته، غضب حين علم من واشنطن أن وايزمان أشار إلى الخطة في حديث مع أحد مساعدي الرئيس تيودور روزفلت، بقوله «خطة رئيس الوزراء».
وكتب إيدن رسالة إلى تشرشل يقول فيها: «لا أعلم إلى أي مدى يملك وايزمان صلاحية التحدث باسمك، لكنني قلق بعض الشيء بسبب خطر الالتباس الحادث في واشنطن... سياستنا الحالية في فلسطين تمت الموافقة عليها في مجلس العموم... أعرف تماماً مشاعرك الشخصية بهذا الخصوص، لكن لم تكن هناك مناقشة توحي بإمكانية مخاطبة الحكومة الأميركية بخصوص احتمال تعديلها» (أي السياسة البريطانية).
وأضاف إيدن: «يجب أن أسجل أيضاً وجهة نظري بأن العاهل السعودي لن يقبل استقبال وايزمان لمناقشة مستقبل فلسطين، ولن يوافق على أن يزكي للعالم العربي أي صيغة تشابه ولو من بعيد الطموحات الصهيونية».
هذا ما دفع تشرشل إلى القول: «أعتبر أن جميع الحوارات التي تناولت هذه النقاط لا تزال غير ناضجة في الوقت الحاضر، وليس من شأنها إلا التسبب في الخلاف».
قمة أميركية - سعودية
وقبل أن تنعقد القمة الأميركية - السعودية كانت أميركا تتقدم بخطا حثيثة لاحتلال موقع متقدم في الخليج العربي، وكانت أميركا طوال القرن التاسع عشر حتى نهاية الحرب العالمية الأولى تعتمد سياسة التجاهل وعدم الاهتمام إزاء ما كان يسمى «المسألة الشرقية»، أي ضعف الدولة العثمانية التي كانت تسمى في أدبيات الديبلوماسية الغربية «الرجل المريض».
ويتضمن الفصل التالي الترجمة الكاملة للوثيقة التي كتبها عقيد بحري متقاعد اسمه وليم إيدي، أول وزير مفوض أميركي بالسعودية 1944 - 1946، وصدرت للمرة الأولى العام 1954 عن «جمعية أصدقاء الشرق الأوسط الأميركيين»، وهي مؤسسة تعليمية ثقافية غير تجارية أو سياسية تسعى إلى إقامة تفهم أفضل بين أميركا ودول الشرق الأوسط.
وتحت «عنوان الصعود إلى السفينة» يحكي وليام إيدي بالتفصيل بداية الرحلة، وفي الجزء المعنون «الرحلة»، يشير إيدي إلى أنها استغرقت من جدة للسويس يوماً وليلتين. أما الفصل المعنون «المقابلة» فهو الأهم.
الإيمان الخاص
وعن لقاء القمة يقول إيدي: «لم ينشر شيء عن الحديث السياسي لأن أحداً ممن حضروه لم يخرج عن صمته، وها أنا الآن أفعل. فقد رفض الملك بشدة عرض نسخته من مذكرة الحديث ولم يستغل حقه في ذلك واعتبر أن تلك المناسبة لم تكن إلا شكلاً من أشكال الصداقة الشخصية. فمن وجهة النظر العربية البسيطة أن مثل هذه الصداقات تعتمد كلية على الإرادة الحسنة والإيمان الخالص، وعندما ماتت تلك الإدارة الحسنة وذلك الإيمان الخالص بموت روزفلت لم يستطع الذي خلفه إحياءها، ولم تستطع ورقة تُنشر أن تبعثها. وكان ملاحظاً أن ابن سعود لم يلمح في أي وقت إلى طلب مساعدات اقتصادية أو مالية للسعودية. فقد سافر إلى اللقاء ناشداً صداقة لا اعتماداً مالياً، وفي ضوء هذه الحقيقة لم يكن في هذا الوقت سبب يجعله يتوقع تدفق البترول العربي ليضاعف دخله القومي، على العكس فقد كان يحكم في العام 1945الأراضي الريفية التي لا تنتج ما يكفي لإطعام سكانها والأراضي التي عزلتها الحرب عن الوفاء بضرورات الحياة.
وإذ أشار روزفلت في القمة بعد مناقشة تطورات الحرب واستعراض ثقته بأن الألمان منهزمون لا محالة فإنه أعرب عن مشكلته الخطيرة التي يأمل أن يجد لها مساعدة ونصيحة عند الملك، وهي إنقاذ البقية الباقية من اليهود في وسط أوروبا الذين يذوقون رعباً لا يوصف على يد النازيين من طرد وتعذيب وهدم لمنازلهم وقتلهم عمداً».
ردود واضحة
ويضيف إيدي: «كان رد الملك عاجلاً ومقتضباً أعطهم وأحفادهم أراضي الألمان ومنازلهم فهم الذين اضطهدوهم. فأجابه الرئيس روزفلت بأن للناجين من اليهود رغبة عاطفية في سكنى فلسطين، وأنهم في الحقيقة يخشون الإقامة في ألمانيا حيث قد ينالهم العذاب ثانية. فقال الملك إنه لا يشك أن لدى اليهود أسباباً قوية تمنعهم من الثقة بالألمان إلا أنه لا يشك أيضاً في أن الحلفاء سيدمرون قوة النازيين للأبد وسيكون نصرهم عزيزاً بحيث يوفر الحماية لضحايا النازية، وإن لم يقدر الحلفاء على السيطرة على مستقبل ألمانيا السياسي فلماذا يخوضون هذه الحرب الفادحة الثمن؟ وأضاف الملك إنني لا أستطيع أن أترك عدواً لي في وضع يسمح له برد الضربة بعد الهزيمة.
وعاد روزفلت ليقول إنه يعتمد على الكرم العربي وعلى مساعدة الملك في حل المشكلة الصهيونية. فأجابه الملك دع العدو الظالم يدفع الثمن، فعلى هذا الأساس نخوض الحرب نحن العرب، فالمجرم هو الذي يجب أن يؤدي الغرامة وليس المتفرج البريء، متسائلاً أي شر ألحقه العرب بيهود أوروبا؟ إنهم المسيحيون الألمان سرقوا أموالهم وأرواحهم، إذاً فليدفع الألمان الثمن، وعاد مستر روزفلت يطرق الموضوع شاكياً أن الملك لم يمد له يد العون لحل هذه المشكلة. ولكن يبدو أن صبر الملك نفد فقال بشيء من الحدة إنه لا يفهم مقصد الرئيس من عدم إلزام الألمان بالتعويض لليهود. وقال إن من تقاليد العرب توزيع الضحايا الناجين من المعركة على العشائر المنتصرة وفقاً لعدد كل عشيرة ومقدار ما ساهمت به من ماء وطعام للمحاربين، وقال إن في معسكر الحلفاء خمسين بلداً أفقرها وأصغرها فلسطين التي عُهِد إليها بأكثر مما تطيق من اللاجئين الأوروبيين».
حلف مكتوب
ويتايع إيدي: «إن روزفلت أكد أنه بوصفه رئيساً لن يفعل شيئاً من شأنه أن يكون عدائياً للعرب، وأن حكومته لن تغير من سياستها تجاه فلسطين من دون مشاورات مسبقة وكاملة مع كل من العرب واليهود. بدوره، اعتبر الملك هذه التأكيدات الشفوية بمنزلة حلف مكتوب بينه وبين روزفلت، ولم يخطر بباله أن الموت سيخطف روزفلت قبل أن يبر بوعده».
وتحت عنوان «مستر ترومان» قال إيدي: «حدث لهذا المؤتمر التاريخي سقطة مفاجئة في البيت الأبيض، ففي مطلع أكتوبر العام 1945 جدد وزير الخارجية الأميركي النداء لأربعة من رؤساء البعثات الديبلوماسية الأميركية ليثبتوا لمستر ترومان تدهور المصالح الأميركية في الشرق الأدنى، وهؤلاء الأربعة هم الوزراء المفوضون في القاهرة ولبنان وسورية والسعودية، ثم القنصل العام المنتدب في فلسطين. وكانوا قد وصلوا جميعاً إلى البيت الأبيض منذ 10 أكتوبر. بيد أنهم كانوا في واشنطن من دون عمل يؤدونه أو مهام منوطة بهم، وذلك لأن المراقبين في البيت الأبيض أقنعوا الرئيس بأنه من الحماقة مقابلة وزرائه في البلاد العربية قبل انتخابات الكونغرس في نوفمبر. وبعد الانتخابات سمح لهم مدير مكتب الشرق الأدنى بوزارة الخارجية بالحضور لعقد مؤتمر خاص مع مستر ترومان. وقدم المتحدث باسم المجموعة جورج وادسورث شفاهة بياناً متفقاً عليه في نحو 20 دقيقة وكانت هناك مناقشات قصيرة، وسأل الرئيس بعض الأسئلة في اللقاء الذي أحيطت محاضره الرسمية بالسرية التامة في وزارة الخارجية. وأخيراً لخص مستر ترومان موقفه في صراحة تامة قائلاً: عذراً أيها السادة فإنني مضطر للرد على مئات الآلاف من المتلهفين على نجاح الصهيونية في الوقت الذي لا يوجد فيه مئات الآلاف من العرب في دائرتي الانتخابية».
بطاقة تعريفية:
اسم الكتاب: «القمة الأميركية - السعودية الأولى: القمة السرية بين الملك عبدالعزيز آل سعود والرئيس روزفلت 1945» بقلم وليام إيدي
ترجمة: حسن الجزار
إعداد وتقديم ودراسة: ممدوح الشيخ
الناشر: مكتبة بيروت «سلطنة عمان» - دلتا للنشر/ مصر
الحجم: 220 صفحة من القطع الكبيرة
سنة النشر: 2008