كان مطلوباً نقل الترهيب من الشارع إلى داخل مجلس النواب. لم ينجح «حزب الله» في ذلك. فشل في الشارع عندما كشفت «غزوة بيروت» والجبل في مايو الماضي حقيقة الحزب والدور المرسوم له ولسلاحه من الخارج. وما قد يكون أهم من ذلك كله، أن الغزوة التي استهدفت إخضاع لبنان واللبنانيين أرتدت على الذين نفذوها ووقف النواب الشرفاء حقاً في المجلس وقفة رجل واحد في التصدي للإرهاب والترهيب وتأكيد أن بيروت لن تركع. الجبل لم يركع. لم يركع الشمال ولم تركع طرابلس، رغم التفجير الإرهابي الأخير الذي استهدف مؤسسة الجيش. ولم يركع نواب لبنان. لكن ذلك ليس كافياً لإنقاذ الحياة النيابية في الوطن الصغير.
من أسباب فشل «حزب الله»، الذي لا يزال يوسّع أنتشاره العسكري على كل الأراضي اللبنانية في إطار خطته الانقلابية على الدولة ومؤسساتها والتقاليد الديموقراطية المعمول بها في لبنان منذ نشوئه، عدم قدرته على التمدد في اتجاه المناطق المسيحية في الثالث والعشرين من يناير من العام 2007. كانت تلك ضربة أساسية تلقاها الحزب المسلح الوحيد في لبنان عندما فشل في تمكين أداته المسيحية الممثلة بالنائب ميشال عون من وضع يدها على ما يسمى بيروت الشرقية والمتن وجبيل وكسروان. نزل الناس العاديون إلى الشارع وفتحوا الطرقات بأجسادهم. رفض المسيحيون في السنة 2007 الفتنة المسيحية - المسيحية التي سعى إليها الجنرال ونجح في إشعالها في العامين 1989 و1990. من يتذكر كيف نقل الجنرال المعركة وقتذاك إلى الضبية وإلى القليعات في قلب كسروان ومناطق أخرى من لبنان وراح يقصف عشوائياً في كل الاتجاهات تمهيداً لليوم الذي تمكن فيه السوري من دخول قصر بعبدا ووزارة الدفاع؟
في اليوم ذاته، أي في الثالث والعشرين من يناير 2007، كان أهل بيروت في الطريق الجديدة وكورنيش المزرعة ورأس بيروت والبسطا والنويري والمصيطبة وزقاق البلاط ومناطق وأحياء أخرى يمارسون المقاومة. واضطرت السلطات الإيرانية أخيراً إلى التدخل ولجم ميليشيا «حزب الله» التي ليست في النهاية سوى لواء في «الحرس الثوري» الإيراني. لم تكن إيران راغبة في تلك المرحلة في تعميق الشرخ الشيعي - السني، فارتأت مع حليفها السوري توجيه «حزب الله» وأدواته إلى وسط بيروت للاعتصام فيه والاعتداء على الأملاك الخاصة والعامة وتعطيل الدورة الاقتصادية في الوطن الصغير استكمالاً للعدوان الإسرائيلي صيف العام 2006.
لا يمكن فصل ما شهده مجلس النواب أخيراً، في مناسبة مناقشة البيان الوزاري للحكومة، عن المحاولة الانقلابية التي يتعرض إليها لبنان والتي من محطاتها «غزوة بيروت» والحملة العسكرية على الجبل وأحداث مخيم نهر البارد التي ابتدأت بذبح ضباط وجنود لبنانيين على يد عصابة شاكر العبسي السورية التي استولت على المخيم. من يتذكر كلام الأمين العام لـ«حزب الله» عن أن المخيم «خط أحمر»؟ من المحطات الأخرى سلسلة الاغتيالات والتفجيرات التي استهدفت لبنانيين بارزين، ينتمون إلى الخط العربي المنفتح على العالم وكل ما هو حضاري فيه، كل ذنبهم أنهم وقفوا في وجه نظام الوصاية وقاوموه بالكلام وليس بالسلاح وقاوموا في الوقت ذاته ثقافة الموت.
لعلّ أخطر ما شهدته جلسات مناقشة البيان الوزاري تلك الرغبة التي أظهرها «حزب الله» في إلغاء دور مجلس النواب عن طريق استخدام أحد النواب في ممارسة عملية ترهيب مكشوفة جعلت كل نائب يمتلك حداً أدنى من التهذيب واللباقة والتربية البيتية يتساءل: ماذا جئت أفعل هنا؟ لم يمارس رئيس المجلس دوره في ضبط نائب «حزب الله» وضبط تصرفاته. وبدا إلى حد ما شريكاً في سيناريو يصب في شرشحة مجلس النواب ودوره وذلك بعدما أغلقه لمدة تزيد على سنة ونصف السنة.
لم يجد الرئيس حسين الحسيني، الذي يحتفظ بمحاضر مؤتمر «الطائف»، مكانا له وسط هذا الهرج والمرج ففضل الاستقالة. لم يعد البرلمان ذلك المكان الذي يعرفه واعتاد عليه. شعر بالغربة داخل مجلس النواب. دخل الرئيس حسين الحسيني المجلس في العام 1972. اعتاد على التعاطي مع كبار داخل المجلس وخارجه. عرف السيد موسى الصدر والشيخ محمد مهدي شمس الدين وكان قريباً من الرئيس صائب سلام والرئيس تقي الدين الصلح والعميد ريمون إده وغيرهم من الكبار الكبار. الأكيد أن حسين الحسيني، الذي يختار كل كلمة يقولها بعناية فائقة خشية أن يخدش شعور أحد، أحس بالغربة في الندوة النيابية بعدما أمضى فيها كل تلك السنوات فاختار المحافظة على كرامته لا أكثر. وبدأ باستقالته كأنه ينعي الحياة النيابية في لبنان حيث ليس مسموحاً للأكثرية أن تحكم في ما المعارضة تمارس دور المحاسبة والرقابة على الحكومة.
نالت حكومة الرئيس فؤاد السنيورة الثقة. حصلت على مئة صوت، بما في ذلك أصوات نواب «حزب الله» وذلك بعد التوصل بصعوبة إلى بيان وزاري يفهم منه «حزب الله»، الذي يدرك معنى القرار 1701 الذي هو جزء لا يتجزأ من البيان، أن ليس أمامه سوى متابعة توجيه سلاحه إلى صدور اللبنانيين. لم تكن تصرفات الحزب في مجلس النواب تقل خطورة عن اعتداءاته على أهل بيروت والجبل. ولهذا السبب وليس لغيره، وفي ضوء استقالة الرئيس حسين الحسيني، حتى لو عاد عنها، يظل السؤال الكبير هل انتهت الحياة النيابية في لبنان؟ هل انتهى دور مجلس النواب؟ هل من معنى لوجود أكثرية نيابية في البلد... أم أن الكلمة الأخيرة هي للسلاح وللطرف الذي يحمل السلاح. هذا الطرف الذي يعتقد أن الثلث المعطل خطوة على طريق تحقيق الانقلاب الكبير بعد الانتخابات النيابية المقبلة.
أبعد من الكلام البذيء الذي صدر عن نائب «حزب الله» وأبعد من انكفاء الرئيس حسين الحسيني، هل من مجال للمحافظة على الصيغة اللبنانية في شكلها الحالي؟
خيرالله خيرالله
كاتب وصحافي لبناني مقيم في لندن