على مدار أكثر من عامين -منذ 3 يوليو الأسود- تحكم الدولة المصرية حالة من حالات الاستقطاب الحاد الذي لم تعرف له الدولة والمجتمع المصري مثيلاً منذ سنوات وربما عقود طويلة، ولقد نتج عن حالة الاستقطاب الحاد هذه عدة تداعيات سلبية ومؤثرة على طريقة إدارة الدولة والمجتمع يمسك بعضها بتلابيب بعض، وتؤدي بعضها إلى بعض في شبكة ارتباطات عميقة بين المقدمات والنتائج، وهي:
أولها: تنازع الأجهزة التي من المفترض أنها تنتظم وتنظم إدارة شؤون الدولة والمجتمع، ولم يقتصر الأمر على تنازع الاختصاصات والصلاحيات بل تعداه إلى تنازع الوظائف والأدوار، وكرست تلك الحالة الصراعية حالة الفوضى الضاربة بأطنابها في كل جنبات الدولة المصرية منذ 25 يناير 2011، وأصبح القول النهائي في كل قضية وفي كل سياسة هو لمن يملك فرض قراره على بقية مؤسسات الدولة، وأصبح منصب الرئاسة هو المنوط به تسيير كافة شؤون الدولة والمجتمع، ولا عزاء للفصل بين السلطات، ولا عزاء للدستور الذي لم يفعّل منه شيء، ناهيك عن القوانين التي يضرب بنصوصها الواضحة الصريحة عرض الحائط، بالإضافة إلى سيل القوانين التي تصدر مباشرة من رئيس الجمهورية في غيبة برلمان منتخب.
ثانيها: تتداخل الأبعاد السياسية والاقتصادية والأمنية في كل قرار وفي كل سياسة تتخذها الدولة، وتلاشت تماماً حالة التمايز المؤسسي بين أبعاد كل قرار استراتيجي على مستوى الدولة، وأصبح من المعتاد أن تتحكم حالة الاصطفاف والاستقطاب وراء كل قرار، والأمثلة على هذا المظهر كثيرة:
فالمؤتمر الاقتصادي الذي هو بالتعريف يهدف إلى رفع ملاءة الدولة الاقتصادية يسفر عن مجموعة هلامية من اتفاقات التفاهم غير الملزمة والتي لا تتضمن أي شروط جزائية، وكأن هدف المؤتمر الاقتصادي بالأساس هو استجداء نوع من اعتراف العالم بالنظام القائم أو خلق شرعية موازية أو بديلة للشرعية الانتخابية التي شكك الكثير فيها باعتبارها مسرحية لم يتعد دور الطرف المنافس فيها دور الكومبارس، ولا عزاء لمن راهن على حمدين.
ولا يبعد عن هذا المنطق في التفكير مشروع قناة السويس دون الدخول في جدل عقيم عما إذا كانت قناة جديدة أم تفريعة، ما جعل كاتب من مؤيدي نظام 3 يوليو يصدح بما يراه القول الفصل: ليست قناة وليست جديدة، وهو الذي كان يدعو السيسي للغضب.
وهكذا تتداخل أبعاد القرارات، فالقرار الاقتصادي لا هدف له أبعد من الترويج للنظام وخلق حالة وهمية من الإنجاز وإبهار العالم الذي تخطى حتى إبهار المصريين، وهذه الحالة السمجة من المظاهر الاحتفالية في كل قرار قد تصلح لبعض الوقت إنما يقيناً لن تصلح لكل الوقت، ولن تفلح في خلق شرعية إنجاز وهمية.
ثالثها: سيطرة منظومة ما يسمى بالأجهزة السيادية -وهو بالمناسبة مصطلح صحافي لا علاقة له بالدستور ولا بالقانون ولا بمؤسسات الدول المحترمة- على كافة القرارات والمواقف المصيرية في الدولة، ولا عزاء للتمايز المؤسسي ولا عزاء كذلك لأهل الاختصاص في كل مجال بعد أن أصبح قول تلك الأجهزة السيادية هو القول الفصل والقول النهائي في كل مسألة وفي كل قضية، وكأن مصر بكل عظمتها قد أضحت جمهورية من جمهوريات الموز.
العقل الأمني لن يحمي البلد من تداعيات حالة الاستقطاب الحاد، ولن يرسو بسفينة الوطن على بر الأمان، قد يحقق بعض الانتصارات الجزئية المتعلقة باستبعاد المنافسين أو المعارضين إما بالسجن وأما حتى بالتصفية الجسدية، إنما على مذبح الدستور والقانون وحقوق الإنسان والحريات العامة، أي أن نجاحاته الأمنية تظل كلفتها السياسية والإنسانية والإعلامية باهظة الثمن وقد تودي بجمل النظام السياسي، فالعقل الأمني كالدبة التي قتلت صاحبها حقيقة لا مجازاً.
واحتدام حالة الاستقطاب الحاد والصراع بعد مرور سنتين أحسبها انتهت إلى واقع لا غالب ولا مغلوب بالمعايير الاستراتيجية للصراع الوجودي، فمن يظن نفسه انتصر لم ينتصر بالضربة القاضية، ولم يتمكن من استبعاد المنافسين وإخراجهم من ساحة الصراع تماماً، والمنهزم مازال قادراً على خلق حالة من عدم الاستقرار في الدولة والمجتمع، هذه الحالة تعبر عنها كل المؤشرات الاقتصادية التي لا تحابي أحدا: كسعر الصرف، وحالة البورصة، ومقدار الاحتياط النقدي.
ومن ثم فلا سبيل سوى الخروج من أسر المعادلات الصفرية، فلن يحقق أي طرف كل ما يريد، وإدارة صراع سياسي واجتماعي وأمني في القرن الواحد والعشرين وعصر الفضائيات والسماوات المفتوحة ووسائل التواصل الاجتماعي بعقلية أدوات ووسائل الستينات، كمن يتعامل في زمن الأي فون بعقلية الجرامافون كما يقول أحد أصدقائنا الكرام.
ولا سبيل سوى القبول بتنازلات مؤلمة من كل الأطراف، يتراجع فيها كل طرف عن جزء كبير من أحلامه المستحيلة التي لا يمكن تحقيقها مهما دفع فيها من أثمان، ففي مثل هذه النوعية من الصراعات الاجتماعية الممتدة لا ينتصر أحد.
ولا سبيل سوى الإعداد والتهيئة لمرحلة ما بعد الحرب، فحتى الصراعات المسلحة بين الدول يفكر كل طرف في مرحلة ما بعد الحرب التي حتما ستضع أوزارها طال الوقت أم قصر.
mailto:
[email protected]