حوار / شوقي بزيع: الكتابة نوع من حل فردي بالنسبة للشاعر لأنها تأتي رداً على حال القلق

تصغير
تكبير
|بيروت - من محمد دياب|

تحدث الشاعر اللبناني في الجزء الأول من الحوار عن افتتانه بالجنوب، وعن قريته زبقين، والعديد من المواقف التي تشكلت على أساسها شاعريته، ويستكمل بزيع في هذه المساحة حديثه عن ابداعاته الشعرية، وهو الذي قصدناه في مقهى «الكافيه دو باريس» في شارع الحمراء، دائماً يجلس هناك بصحبة شعراء من جيله. يتحلقون حول قهوتهم الصباحية يتمازحون، يتحدثون في الشعر والسياسة، يطالعون الصحف ويتناقشون في ما بينهم بموضوعاتها.

ولقد أراد مني ألا أبعده عن هذه الجلسة المقدسة بالنسبة لهم. فهي الجزء الوحيد من النهار الذي اعتادوا منذ زمن على أن يقضوه معاً، ليبدأ حديثه عن الشعر معنا بوسامته المعروفة التي تضفي عليه سمة العاشق الأبدي، رغم هزيمته في العديد من الأحيان. ومن ثم نورد اليكم نص الجزء الثاني من الحوار:


• في مجمل قصائدك العاطفية وغيرها نلاحظ وجوداً أنثوياً عالياً، وكأن الكتابة لا تستوي عندك بلا امرأة أو بلا أنثى طغى حضورها فصارت قصيدة.

- يمكنك أن تجيب بنفسك عن ذلك. أمر طبيعي أننا نحن الرجال نتعلق بالأنوثة، ليس فقط ببعدها المباشر الجسدي، بل ببعدها الرمزي المفتوح على التأويل وعلى الرمز. فالأنوثة هي ماء العالم، وهي هواؤه وهي نفحاته المكسوة بالفرح والحب والزرقة الشاسعة. الرجل بطبيعته، وبحسب تكوينه الجسدي والعضلي، كائن يقوم، بحدود كبيرة، على القسوة والغرابة. يرغب بالحروب. في حين أن المرأة، هي الاحتياطي الأهم للفن وللشفافية في العالم. المرأة بوصفها أما أو حبيبة، دائما تستطيع أن تتنقل بين اتحادها بالأرض كأم، وبين اتحادها بالمغامرة كأنثى. ربما يعود احساسي المفرط بأنوثة المرأة وتعلقي بها، إلى عناصر متصلة بطفولتي الشخصية. ذلك لأن العلاقات في قريتي كانت نسبيا غير متوافرة وغير متاحة، إضافة إلى أن والدي كان قاسيا ومفرطاً بقسوته، إلى الحد الذي يمنعني من مقابلة الفتيات أثناء مراهقتي المبكرة، مما ولد لدي نوعاً من العطش إلى الجمال الأنثوي، وتهالكاً على المرأة، مازلت غير قادر على التخفيف منه حتى اليوم.

• تقول في إحدى قصائدك: «كل امرأة أحبها تراجعت إلى الوراء..... فكلما مشيت خطوة على طريق روحها... أعود خطوتين إلى الوراء... وكلما طوقت خصرها بساعدي... تراجعت إلى الخرافة... كأنما أحب ليس امرأة بعينها.... بل المسافة». أين أنت من هذه المسافة اليوم؟

- طبعاً هذه القصيدة تؤكد الكلام عن المسافة الذي قلته سابقاً. وهذه المسافة أراها ضرورية لبقاء المرأة في دائرة القصيدة. وهذا البقاء يستلزم أن تكون العلاقة التي تربطني بالمرأة محكومة دائماً بالغياب، ومحكومة بالشغف المستمر، وغير محكومة بالضجر والرتابة الناجمين عن الزواج. وإذا كنت قد تزوجت قبل أربعة اعوام فحسب، فهذا ليس لأني بدلت قناعتي بشأن شعرية الحب ونثرية الزواج، ولكن من أجل البحث عن ملاذ آمن في العمر المتأخر. يعني كان الزواج نوعاً من ضمان شيخوخة في شكل أو بآخر، وربما كان مغامرة لم أعشها من قبل. كوني عشت مغامرات عاطفية عدة في السابق، فأحببت اختبار هذه التجربة على أساس أنها إذا لم توفق أستطيع أن أتوجها بالطلاق في ما بعد، وإذا وفقت أكون قد أقمت نوعا من الدرع الذي يقيني من عثرات الشيخوخة ومواجهة الأمراض في ما بعد. أعرف أن هذه أنانية ذكورية، ولكن هذه طبيعة البشر وطبيعة الشعراء في شكل عام، ولست من الناس الذين يرتدون الأقنعة لإخفاء حقيقتهم.

• هل التقدم في السن جعل هاجس الموت والحياة مرتفعاً لديك؟ وهل هذا ما دفعك إلى جمع كتاباتك في مجلدين؟

- طبعاً الحياة والموت هما أساس الوجود والطبيعة الإنسانية، وهذا هاجس موجود باستمرار في شعري، منذ مرثية الغبار عندما كنت في الأربعين من العمر وإلى اليوم، وأنا مهموم دائماً بمسألة فوات الأوان وبالتقدم في السن. هذا ليس تشاؤماً بالحياة أو عزوفاً عنها كما يرى البعض، أو رغبة في القنوط واليأس، وإنما تعلق بالحياة، وشغف بها وخوف من فقدانها، لأن الحياة شديدة القصر أمام اتساع الجمالات التي تقدمها لنا. ولهذا كان دائماً سؤال الفن، متعلقاً بمسألة تبدل المصائر، ومسألة الشيخوخة وبالحفاظ على صورة الفنان في شبابه، كما أشار الكاتب جيمس جوي الإيرلندي على ما أعتقد.

بالنسبة للأعمال الشعرية، في الواقع لم تحمل بالنسبة لي دلالات مصيرية. هي كانت جزءاً من مشروع بدأه شعراء قبلي، ورأيت فيه نوعاً من تصفية الحساب مع الماضي ومع نتاجي السابق، بحيث أني أجمع أعمالي السابقة في مجلدين، من دون أن يعني هذا توقيعاً على النهاية أو مغادرة للشعر. وقد أصدرت مجموعتين شعريتين في ما بعد هما صراخ الأشجار ولا شيء من كل هذا. وأتمنى ألا أتوقف عن الكتابة، لأن هذا يعني الموت الحقيقي بالنسبة للكاتب الذي لا يضاهيه مأسوية الموت الجسدي. ولكن ثمة شيء شبه مأسوي في أعمالي الكاملة، استخلصته بعدما وضعت المجلدين في مكتبة بيتي، ورأيتني مقبوضا علي داخل دفتي كتابين، وأحسست بشيء من المرارة وأنا أقايض الحياة التي أعطيت لي ببضع المئات من الصفحات، وشعرت بأنني أضحي بالحياة من أجل اللغة، بما أن هذه الحياة لا تمنح إلا مرة واحدة، شعرت بأن هذه الكتب الموضوعة جنبا إلى جنب، وكأنها نعوش صغيرة للشعراء والكتاب الذين قضوا على مذبح الكتابة والذين لم يتنعموا بحياتهم، كما يفعل الباقون. ولكن أسال نفسي، ماذا كان يمكن أن أفعل لو لم أكتب؟ بما أن الحياة ستنقضي في جميع الأحوال، فعلى الأقل يمكننا أن نراهن على مشروع ما يستحق المغامرة.

• اليوم في لبنان نرى الشعر يذهب نحو قصيدة النثر، حتى أن ثمة شعراء كانوا يكتبون التفعيلة ومن ثم تحولوا إلى قصيدة النثر. لماذا لم يكتب شوقي بزيع قصيدة النثر؟

- لقد سبق وطرح علي هذا السؤال وقلت إنني لا أحسن كتابة قصيدة النثر. الأمر لا يتعلق بموقف سلبي من قصيدة النثر، بل يتعلق بإمكاناتي الشخصية وبحساسيتي الشعرية، التي اندمجت منذ البداية بالإيقاع، وهذا شيء لم أختره وإنما عثرت عليه بالمصادفة، وكأنه كان جزءاً من دورة الدم ومن جهاز التنفس، ومن طبيعتي الخاصة. ولست مضطراً للإعتذار عنه أو لمغادرته، لمجرد أن ثمة من ينادي بشكل آخر من الكتابة. هذا الشكل الآخر من الكتابة، أنا أحتفي به شرط أن يكون أحد أشكال الكتابة الشعرية العربية، ولكن لن يكون في مطلق الأحوال بديلاً من الأشكال الثانية. ثم لمصلحة من تضييق الخناق على الشعر العربي، وحصره في نمط واحد على حساب الأنماط الأخرى؟ إذا كانت الحداثة في الأساس قامت على كسر النمط الآحادي الواحد فكيف يمكن أن تستبدل نمطا معينا بنمط آخر؟ ألن يعتبر ذلك نوعاً من الكلاسيكية الجديدة؟ هذا من ناحية، من ناحية أخرى فأنا أعتبر أن قصيدة النثر هي من أصعب أنواع القصائد، لأنها تتقدم من الشعر بلا أي سند ، لا يشفع لها الوزن ولا القافية ولا الأشكال الجاهزة الموروثة، وليس لها بالتالي إلا مخيلة الشاعر الإستثنائية والفذة، والتي يجب أن تعوض عن جميع العناصر المطلوبة. ولذلك أفهم قول الشاعر تي . س. إليوت إن شاعر الوزن يمكنه أن يكون شاعراً متوسط الموهبة، بينما شاعر قصيدة النثر لا يستطيع إلا أن يكون شاعراً كبيراً أو لا يكون شيئاً على الإطلاق.

• هل خطر على بالك يوماً سؤال «لماذا أكتب»؟

- بالتأكيد، فهذا السؤال مطروح باستمرار. ولكن لنقل ان الكتابة هي نوع من حل فردي بالنسبة للشاعر أو للكاتب، لأنها تأتي رداً على حال القلق وفقدان التوازن التي يعيشها في علاقته بنفسه ومع العالم. فهو حين يكتب، يحاول أن يتصالح مع نفسه، ومع العالم ولو إلى حين، لأنه بعد أن يفرغ من كتابة القصيدة يمكن أن يرتاح وأن يتنفس الصعداء كما تفعل المرأة بعد الولادة. ولكن سرعان ما يحس بعد ذلك بأعراض حمل جديد، وقلق جديد، وهذا شيء يتكرر إلى مالا نهاية. ولكن هذا لا ينفي أن الكتابة في بعض وجوهها هي بحث عن تأكيد حضور الذات في العالم. وهذا التأكيد يمكن أن يتم بشكل أفقي، أي أن يتم توزيع هذا الحضور في ذوات الآخرين من القراء والجمهور، أو بشكل عمودي أي ذهاب هذا الحضور بالزمن عبر المستقبل وعبر وهم الخلود. وكما يعبر بعض الناس عن وهم الخلود بالزواج والتناسل وإنجاب الأطفال. فإن الشعراء يعبرون عن هذه الرغبة، عبر قصائدهم التي يطمحون إلى بقائها من خلال الأجيال اللاحقة. ولكن هذه الفكرة لا تكون حاضرة مباشرة أثناء الكتابة. أثناء الكتابة لا يكون من هاجس حاضر سوى إلحاح الكتابة نفسها، هذا الإلحاح الذي لا نملك فكاكا منه، ولا نستطيع تجنبه. وساعة نكتب يجب أن تطفأ جميع الأنوار، وأن نغرق في الظلمة التامة، وأن لا تضاء سوى مصابيح اللغة التي تشع وحدها في ظلام العالم وعرائه.

• هل الشعر فن مهدد بالموت؟

- أنا من القائلين إن الشعر وجد ليبقى، وإن هذا الفن من أكثر الفنون اتصالاً بجوهر الوجود، وجوهر الفعل الإنساني، لأنه تعبير تلقائي عن ارتطامنا بالحياة منذ لحظة الولادة وحتى الهروب الأخير. هو كالصرخة وكالدمعة وكالضحكة، يعني متصل مباشرة ودون وعي مسبق بما يقابله في هذه الحياة. الشعر سيبقى مادمت الحياة باقية ومادام الموت والمرض والشيخوخة باقية. الشعر سيبقى مادامت مسألة الحرية مطروحة على بساط البحث. ومادام هناك ظلم وإحتلال وحب وكره. فأي زعم بزوال الشعر هو زعم باطل، لا ينتج إلا عن فشل الحمقى وقصار النظر. يمكن الشعر أن يتراجع في بعض المراحل، وأن يتحول مادة أخرى، كأن يعطي نفسه للفنون الأخرى التي تولد من رحمه، كأن يتوزع في الرواية والمسرح والسينما. ولكن الشعر كفن، لا بد أن يلتقط أنفاسه مجدداً، حتى ولو ترنح في بعض الحقب لأنه مرتبط بالبشر وأساطيرهم، بقدر ماهو مرتبط بمخيلاتهم التي تؤسس وحدها للوعد الإنساني المقبل.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي