الأماكن / مكان الشروق (2 من 2»

تصغير
تكبير
| جمال الغيطاني |

.... في القاهرة القديمة، حتى بداية السبعينات من القرن الماضي، كانت تباع الى جوار المساجد وفي المكتبات لوحات لرسام مجهول تصور مواقف دينية، اختفت الآن بعد المد الأصولي المتأثر بالأفكار الوهابية التي تحرم الرسم تماما، أجد هذه الرسوم كان يصور آدم أبوالبشر، والى جواره حواء، يقفان الى جانب الشجرة، تلتف حول جذعها أفعى رمز الشيطان الذي وسوس لهما ان يأكلا منها، انها الشجرة الأقدم في ذاكرتي، اذ انها مرتبطة بالقصص الديني الذي تعلمناه في المدارس، ونصوص القرآن الكريم التي حفظناها، كان الرسم يعبر عن قصة الغواية الأولى التي أخرجت آدم وحواء من الفردوس لينزلا الى الأرض وينجبا البشرية، العالم الآخر فيه الثواب والعقاب، الجنة والنار، واذا ما ذكرت لي الجنة فان الأشجار هي الصورة المعادلة على الفور حيث الأنهار والإناث الحوريات، والنعيم، صورة الفردوس في الاسلام تستمد كثيرا من عناصرها من التصور المصري القديم الذي حفظته لنا اللوحات الجدارية، على البرديان، الشجرة أساسية.

من المشاهد التي تأثرت بها، عندما رأيت الملك تحتمس الثالث يرضع من شجرة، شاهدت الرسم فمثلت محدقا فيه، وكلما جثته أتجه لأتأمل.


إنسان يرضع من شجرة؟

أي ادراك مبكر لوحدة الأصل المفرد الذي جاءت منه شتى العناصر، ثم رأيت رأس توت عنخ آمون طالعة من زهرة اللوتس، ليس الأمر مقصورا على الملوك فقط، في مقبرة سنجم رع تبدو زوجته كثمرة خارجة من شجرة، المشهد متكرر في التصور المصري القديم لبدء الخليقة.

في البداية أنجبت توت - رمز السماء - أوزير بداخل شجرة جميز... وأشجار الجميز مصرية جدا، ثمارها حلوة المذاق داخلها أسود اللون، ويقول المصريون المسلمون: ان الثمرة كانت حمراء وعندما توفي النبي محمد عليه الصلاة والسلام، اسود قلبها من الحزن، هنا نجد ربط الثمر بالمقدس، في القديم ولد حورس أيضا في دغلة بردي، ألا يدعنا هذا أن نفكر في السيدة مريم العذراء التي جاءها المخاض فأوت الى جذع النخلة، النخلة لها وضع خاص، انها شجرة مقدسة، نراها في الفن المصري القديم، على جدران المقابر والمعابد بعض أعمدة المعابد مستوحاة منها، كذلك في الكنائس والمساجد، تستوحي الأعمدة الشجر بشكل عام والنبات، خصوصا البردي، انه الارتباط بالمقدس أيضا، ألم يولد حورس في دغلة بردي بأحراش الدلتا، كذلك أبيه أوزير.

الصلة بين عناصر الوجود ماثلة في العلاقة بالشجرة، الشجرة الأم، الشجرة تسمع وترى، حواسها مثل البشر، جذعها غائر في الأرض، لا يرى، نصفه ظاهر، كذلك فروعها وثمارها، انها رمز للصلة بين الظاهر والباطن، دلالة على ما غمض من المصائر، فوق أوراق الشجرة المقدسة بهليوبولس، سجل «تحوت» اله الحكمة، والربة «سشات» المكلفة بالكتابة، حارسة المكتبات، حافظة السجلات، المطلعة على أسرار تحوت، على أسرار العلوم كافة، قام كلاهما بتسجيل جميع ما كان وما سيكون من أحداث العالم ومصائر البشر، وفي الكرامات التي تنسب الى أقطاب التصوف الكبار، القول إنه أطلع على اللوح المحفوظ، أي نفذ الى أسرار المجهول، الى وقائع كل آت في هذا الوجود.

الأمر الثاني: مكان شجرة هليوبوليس: هنا كانت أون، مركز عبادة الشمس، حتى الآن توجد شجرة عتيقة، من أقدس الأشجار في مصر عند الأقباط والمسلمين، انها شجرة العذراء مريم التي استظلت بها العائلة المقدسة عند مجيئها الى مصر.

للشجرة في التصوف الاسلامي مكانة رفيعة وأساسية، هناك تصور للكون على أنه شجرة، وللانسان، ولشجرة التين ولشجرة الزيتون.

بالنسبة لي أكن شعورا قويا للنخيل، أتأمل جذوعه وثباته في وجه الرياح، يمنحني احساسا بالأبدية، بالمثول في مواجهة العدم، ربما لأن والدي كان يمتلك أكثر من مئة نخلة في مسقط رأسي، ولم تكن تلك الأشجار مجمعة في مكان، انما كانت متفرقة في أماكن متعددة، كان يصطحبني طفلا، يعرفني على النخيل، يقول لي: انظر انها نخلتك، كأنه يقدمني الى بشر يجب أن أتعرف عليهم.

أذكر المعرض الذي أقيم في متحف اللوفر منذ سنوات عن أولئك الفنانين، في مدخله نصبت خيمة تمت الى الثلاثينات من القرن الماضي، كان يقيم فيها المنقبون عن الآثار، خيمة من قماش أبيض، داخلها سريران من جريد النخيل، ويعرف هذا النوع بالعنقريب، ينتشر في الجنوب، خصوصا المناطق التي تقع قرب الصحراء... حيث تنتشر العقارب السامة، التي أثبتت خبرة الناس أنها لا تستطيع تسلق جريد النخيل، أنام على مثله، في الخيمة مصباح غازي، كان يستخدمه الباحثون داخل المقابر، الصورة الملتقطة للمكان في الثلاثينات لا تبدو فيها ملامح القرية، كما نراها الآن، معظمها كان تحت الرمال، المكشوف منها قليل، صورة أخرى ملتقطة في الخمسينات، التفاصيل البادية أكثر.

الصورة الثالثة من تسعينات القرن الماضي، انها تمثل الوضع الجاري تقريبا الذي تبدو عليه مساكن أولئك الفنانين القدامى الذين أبدعوا في هذه الحضارة، بعد المدخل اتبع السهم الذي يشير الى الطريق الذي يجب أن يسلكه الزائر.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي