رثاء / محمود درويش... شيّع جثاميننا في رام الله








قالوا انك كنت حبيس قصائدك، وكنت تشاهد في مرآتك سوسنة مرصودة في اعين الناس، وكنت خفقة الحلم في افئدة تموت في اليوم الف مرة.
قالوا... وانت تتلقى التعازي فينا.. وتضع على اجسادنا التراب، الذي لم يفلح في اخفاء قلبك «المفتوح» وضميرك المتوهج في عتمة ليالينا الطوال... قالوا ان درويش ظهر من بين حشود المشيعين لم يكن... وكانت سحنته تدل على انه كابد السفر لسنوات طويلة... وانه حينما رأى جسدك مسجى في الكفن... انتفض وزاغت عيناه إلى درجة الاغماء، ثم خر على الارض متهاويا... في تلك الاثناء كان جثمانك متفائلا ببياض كفنه، وكانت عيناك الغائرتين في مساحة الموت، تنظران إلى افق بعيد.
وفي لحظة خاطفة وقف الدرويش خطيبا في الناس وقال: ايها المشيعون لشاعر مات من فرط حلمه، من منكم كان يستطيع النجاة من احزانه، بينما المنافي ثقال، والسفن راسيات على شواطئ الجحيم، والاطفال يتساقطون كالحمائم على الارصفة والشوارع... من منكم كان يستطيع النجاة من موته... الذي يتربص الضمائر والانفاس، والقصائد.
وحينما استنفد الدرويش انفاسه، وضاعت من بين شفتيه الكلمات، كان الصمت متكئا لحديثه المثير، وكانت الوجوه متجهمة شاخصة في اقاصي البعيد، ولم تعد للكلمات معنى، للهمهمات قشعريرة الفقد والغياب.
الاربعاء الماضي كان جثمان محمود درويش مهيئا للدخول إلى الملكوت... مهيئا لان يرسم في ملامحنا الفقد... وقتها كان الدرويش مازال خاضعا لتجربته المريرة في البكاء وفي الصمت معا... لم تكن اللحظة غائبة بقدر ما كانت حاضرة بشدة في اعين المشيعين وكانت الانفاس تتواصل في عزف آلامها، بينما الاحلام تتضاءل كلما اقترب الجثمان من القبر ومع كل ذرة تراب توضع عليك يامحمود درويش كانت القصائد تقفز من دواوينك في لحن موسيقي قاهر... والايادي التي ستعد لاهالة التراب على جثمانك كانت ضعيفة لدرجة انها لم تعد متأكدة من قبضتها الواهنة على الحقيقة المؤلمة.
والدرويش من فرط حزنه كان يسكب في شرايينه التعاويذ والقصائد، ويحفر في افئدتنا القبور... وحدك يامحمود درويش كنتب تنشد في اذهاننا قصائدك... كنا نسمعها بينما التراب على جسدك لآلئ متوهجة... نسمعك نعم نسمع صوتك الرخيم يتلو علينا قصيدة «حالة حصار».
افكر من دون جدوى:
بماذا يفكر من هو مثلي هناك
على قمة التل، منذ ثلاثة آلاف عام
وفي هذه اللحظة العابرة؟
فتوجعني الخاطرة
يرد الصدى.. قتنفلت الكلمة من رعشة الدرويش ملتهبة: ليس القبر ان نرى جثمانك متناسقا مع غيابك، ليس ذلك الغياب، وليس الحزن في اعين المعزين... انه الدم النازف من كلماتك وانت تقف على حافة الوطن... انه الدمع الساقط من اعين النساء في ساحة البؤس والضياع... والمدن التي فقدت معالمها، والتاريخ النازف حزنا... انها المنافي التي تأخذك من وطنك!
الاربعاء الماضي في رام الله ومنذ ساعات قليلة مضت - اصبح محمود درويش شاعر الحلم والوطن، جثمانا خلف الثرى... وان العجز على فهم الحقيقة اصبح مدعاة للحزن بعمق اعمارنا الضائعة.
يقول الدرويش المنهار على اكتاف المشيعين: يامحمود درويش... نحن الذين سبقنا في الموت، وسبقناك في اعلان الغياب... وسبقنا في تشييع جثاميننا بعد الحصار وقبله... بعد الهزيمة وقبلها... بعد الموت وقبله!... فيا قبر كن امينا على جثمان السلام!
... البحر فقد صوته
| بيروت - من محمد دياب |
كان من الطبيعي أن أتوجه أولاً الى البحر، حين تأكدت من نبأ وفاة محمود درويش. كان عليّ أن أعرف ما الذي سيقوله البحر في وفاته. وهو الذي جعل له صوتاً يوزعه بين العاشقين.
ينتابني عقم الكتابة دائماً حين يموت شاعر ما. ولكن درويش استثناء. استثناء تولده أسطورة الشعر، الشعر الذي يجعلنا دائماً ما نريد أن نكون. وبسبب درويش انتقل الشعر من الضفة المقابلة الى ضفتنا.
لا أذكر بأني تحركت لملاقاته، فاللغة كانت أصعب من أن تعثر عليها. وكانت أسهل من ألا تجدنا.
في العام 2005 كان كزهر اللوز أو أبعد، مجرد كتاب آخر لدرويش، وكان حضوري مجرد كتاب آخر سيوقع لي درويش على صفحاته الأولى «مع محبتي». كنت أعلم أنه لا يعرفني أبداً، ولكن في ذلك الوقت ما من قوة في العالم كانت ستقنعني بأنه لا يحبني، وهذه الكتب التي تحمل حياته في طياتها لم تكن لتشكل فارقاً لو لم يوقع لي عليها.
ولكني لم أكن أعلم يومها بأن هذه الكتب ستصبح، أشباحاً تطبق على صدري، الكتب حين يموت صاحبها تصبح جواسيساً للموت.
وتصبح المعركة مع الذاكرة عديمة الجدوى. لا شيء سينقذني من كل هذا الحب الخارج من زوايا الذاكرة بسبب شاعر فضل مواجهة الموت رغم معرفته بهزيمته المسبقة. لا أدري ان كانت هذه بطولة. ولكنها بالتأكيد فعل شعري بامتياز. وهذه الكتب التي تحصنت بالموت لتبقى. بدأت تحاصرني. خرجت الى البحر، خرجت أسمع منه مايريد، لطالما تعودنا أنا وبعض الأصدقاء أن نخاطب البحر على اعتبار أنه قادر على المحادثة، ها ما قرأناه في محمود درويش، وهذا ما صدقته. ولكن الأسطورة على مايبدو تصبح عاجزة أمام الموت. فعاد البحر مجرد بحر، مجرد فجوة كبيرة مليئة بالماء والأحلام وبرسائل الحب.
«بيروت...ماقال الفتى لفتاته.....والبحر يسمع أو يوزع حديثه في اليدين»
الغريب أنه في تلك الليلة، لم يكن من عاشقين على الرصيف البحري. كان ممتلئاً بالناس.
ولكن العشق كان بعيداً عن الموج، والبحر أصابه الصمم، فسكتت بيروت.
يرن هاتفي المحمول، كانت رسالة من أحد الأصدقاء كتب فيها «محمود درويش مات» هكذا بلا أي منمقات لغوية وبلا أي تحضير مسبق. هذه الطريقة الأفضل لتخبر الآخرين بموت الشعراء.
وأنا المحاصر بالذاكرة، كل ما يربطني بمحمود درويش كان جزءا من غياب طويل، غياب مؤثر حولته الى قصائد مرة، والى دموع في مرات أخرى. غياب طويل ومصير قائم على الصدفة.
كلما تذكرت جملة لدرويش، خرجت الأشباح من الذاكرة، كلما قرأت قصيدة في قلبي
عل البحر يسمعها. تخرج فتاة ما تبتسم
لي وتخبرني بأنها تحب الشعر جداً وتمضي.
فباتت القصيدة عقاباً جديداً للذاكرة. الذاكرة التي نشأت وهي تسمع أو تقرأ شعر محمود درويش نحن جيل نشأ وهو يسمع قصيدته أو يقرأها. كلما كتب أحدنا قصيدة، نجلس ونقرأها على مسامع بعضنا البعض، وكلنا خوف من أن تبدو اللغة الدرويشية واضحة في كلامنا. كنا نقرأه ونخاف من ان تسيطر اللغة علينا فلا نخرج من دوامة شعره. لزمنا الكثير من الوقت قبل أن نعلم بأن ما من خطأ في أن تتأثر بالشعراء وما من خطأ في أن تعيد صياغة ما كتبوه بلغتك. ولكن هل من لغة قادرة على اعادة صياغة ما كتبه درويش.
أشعر بأن كل ما أكتبه هذيان محض، دائما ما كان يصيبني موت الشعراء بعقم الكتابة. ولكن القلم هنا كان أضعف من أن يتوقف في حضرة الغياب.
ليس من قبيل الشعر ان قلت أن بيروت كانت تبكي ليل السبت. أو ربما هذا ما أتخيله. ولكني تلك الليلة التقيت بالكثير من الوجوه الباكية أو المرشحة للبكاء.
توجهت نحو الشعر والشعراء، ولكن بدوا وكأنهم فقدوا وجوههم، لم تتغير ملامحهم. أستطيع أن أتعرف عليهم، ولكنهم فقدوا وجوههم التي تعرت أمام الموت. اتصلت بالفنان خالد الهبر، الذي عرف درويش وغنى له قصائده. ولكن صوته هرب منه أيضاً. كل الذين داهمتهم اللغة على عجلة من أمرهم فقدوا شيئاً ما. أو ربما هي الذاكرة التي أعادت الى البال ما ذهب بعيداً. كزهر اللوز أو أبعد، هكذا كان درويش، جميع الشعراء والكتاب الذين خصوا «الراي» بشهادتهم عن درويش، كانوا يتحدثون عن الفقدان، لم يكن فقدان محمود درويش بنفسه أكثر من فقدانهم جزءاً من ذاكرتهم وتاريخهم وحتى حبهم.
قد تبقى بيروت همسات بين عاشقين، ولكني متأكد من أن البحر فقد صوته برحيل درويش.
فتى فتيان القصيدة العربية
| حسن العبدالله |
في المرات الأخيرة التي شاهدته فيها في بيروت، كانت له هيئة الشخص المبتدئ في كتابة الشعر، ففي كل مرة نلتقي فيها كان يريد أن يعرف موقفنا أنا وبعض الأصدقاء من الاتجاه الشعري الجديد الذي بدأ يظهر بالفعل في آخر دواوينه وقصائده. كان قد ضجر من نفسه، ولم يكن يطيق فكرة أن يتكرر، وأن يشبه بعضه بعضاً من ديوان لآخر، وكان في كامل الاستعداد والحيوية والتوثب لكي ينتصر على نفسه، ويكتب شيئاً مختلفاً عن كل ما كتبه في الماضي. وهذا لا يعني أنه لم يكن راضياً عما كتب. فقد كان محمود درويش يعرف جيداً أهمية اسهامه في ابقاء الشعر العربي حياً ومؤثراً وجميلاً في النصف الثاني من القرن العشرين، كما كان يعي جيدا القيمة الوطنية والانسانية لنتاجه الشعري، ولكن حيويته الشعرية والوجدانية الفائقة وشبابه الفني المتواصل والمتجدد كانا يدفعانه بقوة ويلحان عليه لكي يقوم بقفزة ما.
وكان محمود درويش في أوج وثبته الجديدة التي لم تكتمل، عندما خانه قلبه هذه المرة فقطع انطلاقته، ومحى الأفق الذي كان يتجه اليه.
بفقدنا لمحمود درويش نفقد فتى فتيان الشعر العربي، وتفتقد القصيدة العربية بتقاليدها الجميلة والأصيلة آخر ممثليها في عالمنا. وهيهات نجد، ونحن نقلب الطرف فيما حولنا، ما يمكن أن يسد جزءاً من الفراغ الشعري اللهيب الذي تركه محمود درويش وراءه.
* شاعر
الشعرية والسياسية
| عبيدو باشا |
الألم كبير بفقدانه. رغم أن فقدانه كان منتظراً بسبب وضعه الصحي. ولكنه بأناقته الشخصية والحياتية، وبأناقته الأدبية، استطاع أن يعبر في مسالك وهوامش، بحيث لم يُحّمل الآخرين عبء مرضه، كـــما يفعـــل بعـــض الذين يصـــيبهم المرض.
محمود درويش واحد من كبار الشعراء. ليس فقط في العالم العربي، بل في العالم أجمع. وهذا الكلام له جذوره ومصادره. بالامكان مقارنة تجربة محمود درويش الشعرية، بتجربة أي شاعر عالمي. وسنرى أنه في الامكان ايجاد تلك المقاربات الكبيرة بينه وبين شعراء كبار عالميين من دون أي صعوبة.
ما يعنيني من محمود درويش، هو مرحلة اقامته البيروتية. تلك المرحلة ساهمت في زيادة ألقه باضطراد. لأن بيروت مدينة منفتحة على العالم، ولأن بيروت هي مدينة مختبر. اختبرت مختلف أشكال التعبير، وقدمتها الى ناسها وسكانها على حد سواء. ومحمود درويش ليس فقط ابن فلسطين. محمود درويش له أصول بيروتية بالمعنى الابداعي للكلمة.
أصدر مايقارب 16 ديواناً شعرياً. كل ديوان من هذه الدواوين يشكل مفاجأة في حد ذاته. وأتذكر هنا قول أحد الشعراء: «كلما ظننا أن محمود درويش انتهى على صعيد تجربته الشعرية فاجأنا».
هكذا هو دائماً يبلور ويختزن ويعيد الصياغة ويقرأ نقدياً تجربته، حتى يعيد ابتكار أدوات جديدة من خلال ذاكرته المديدة بعلاقته بالشعر العربي، فلم يضع نفسه في صنف واحد من الكتابة.
محمود درويش شاعر تفعيلة كبير. بنى صرحاً شعرياً على التفعيلة. قام في شكل أساسي على المشهدية، وقام في شكل أساسي على واحدة من أخطر قواعد الشعر، ولكن بشروطه الخاصة، ألا وهي الايقاع. أشير الى هذا الموضوع، لأن الايقاع في شعر محمود درويش هو ايقاع داخلي يشكل البنى التحتية لشعره.
وبالنسبة الي أرى أن واحدة من أعظم مراحل محمود درويش، هي مرحلة حصار بيروت، مرحلة الاجتياح الاسرائيلي في العام 1982.
بقي في بيروت ورفض المغادرة حتى عندما ترك المقاتلون الفلسطينيون وكوادر الثورة الفلسطينية بيروت. بقي في بيروت حيث كتب واحدة من أجمل ملاحمه الشعرية هي «مديح الظل العالي».
محمود درويش شاعر ضد السلطة الشعرية والسياسية باستمرار. تورط لمرة واحدة مع السلطة، ولكنه غادرها بعد اتفاق اوسلو. ولأنه كان ضد السلطة، استطاع أن يكتب قصيدة متجددة.
لم يكن محمود درويش ناسخ قصيدة واحدة كتبها ولاقت نجاحاً. بل كتب باستمرار، قصائد لا تشبه بعضها. وأتذكر أن قصيدة مديح الظل العالي أعانتنا
على المرحلة التي تلت حصار بيروت واجتياحها. كتب وقتها هذا الألم الفظيع والجرح المفتوح، فاستطاع أن يصغر من جروح الآخرين.
كنا كلبنانيين شركاء للفلسطينيين في حماية قضيتهم وفي الدفاع
عن قضيتهم. ونرى في الجرح الفلسطيني
ما يصغر الجرح اللبناني. ولذلك
القضية الفلسطينية حتى هذه اللحظة
هي ضميرنا وضمير العرب، ولذلك سوف يبقى محمود درويش شاعر العرب، ليس لأنه شاعر القضية الفلسطينية،
وهو الذي لطالما أراد أن يقرأ بوصفه شاعراً دون أن يقرن الى تجربة سياسية أو الى قضية تمت بصلة الى السياسة. ولكنه يبقى أحد أهم من رفد القضية الفلسطينية بما تستأهله بمواقف رفيعة. ورفد الفلسطينيين بما يستأهلونه من اشارات، ومن قضايا ساهمت في صمودهم، وفي تعزيز حضورهم.
محمود درويش يذكرنا دائماً أن الفلسطينيين هم جزء من أرفع الناس في العالم، على عكس الدعاية الصهيونية التي تريد أن تصورهم كلاجئين فقط. محمود درويش مثله مثل ادوارد سعيد وغيرهما من المثقفين الفلسطينيين الذين هم نخبة النخبة على صعيد الثقافة والفن.
* مسرحي وكاتب صحافي
حوّل الأساطير اليهودية
إلى نص فلسطيني
| ناظم السيد |
ربما كنت من القليلين من الشعراء أو الصحافيين، الذين أحبوا محمود درويش في القسم الأول أو القسم السابق على انعطافته في التسعينات مع ديوان «أحد عشر كوكباً». كثيرون نظروا الى تجربة محمود درويش الجديدة، بدءاً من «أحد عشر كوكباً» وحتى آخر اصداراته مروراً «بالجدارية» و«لماذا تركت الحصان وحيداً»، على أنها تجربة جدد فيها محمود درويش قصيدته. اذ تحول من النص الثوري والخطابي والمباشر، الى نص أكثر تورية.
أنا أجد نفسي أكثر في تجربة محمود درويش الثورية. وهذا مفارق لما أكتبه أنا تحديداً في قصيدة النثر اليومية القائمة على التفاصيل وكتابه الهامشي. لكنني ربما أقرأ محمود درويش كذاكرة. قرأت له مثلاً «مديح الظل العالي»، نحو سبع مرات، هذا النص التسجيلي الطويل.
أنا أجد نفسي في هذا النص ربما لأني قرأت كتبه السابقة بمخيلة ثورية وبوعي ثوري في مراهقتي وشبابي. أنا أنحاز الى هذا النمط من كتابة محمود درويش. ويبدو من نافل القول ان محمود درويش هو أحد أشهر الشعراء في العالم، ربما كان مشهوراً في الغرب أكثر من شهرة الشعراء الغربيين أنفسهم. ويعود جزء كبير من شهرته الى القضية الفلسطينية التي يمثلها على المستوى العربي وربما العالمي. لا شك أن القضية الفلسطينية خدمت شعر محمود درويش، مثلماً خدم هو بقصيدته، القضية الفلسطينية. ومحمود درويش واحد من الشعراء القلائل الذين استطاعوا أن يزاوجوا بين القضية العامة وبين الجملة الشخصية. أي اننا نجد الجملة العاطفية الخاصة في شعر محمود درويش متزاوجة مع جملته التي تتناول قضية كبيرة كالقضية الفلسطينية. ويجوز الحديث عن نثر محمود درويش، الذي لا يقل أهمية عن شعره. لا سيما في كتابه «ذاكرة للنسيان». في هذا الكتاب نرى أن قدرة محمود درويش النثرية موازية لقدرته الشعرية. وهنا أستذكر جملة للجاحظ يقول فيها «النثر فضاح الشعراء» وأعتقد أن الشاعر الذي يجيد النثر هو شاعر جيد، والشاعر الذي لا يجيد النثر، أعتقد أنه يفتقد الى فن الكتابة في شكل عام.
ولا شك في أن محمود درويش من أهم الشعراء العرب الذين اشتغلوا على الصورة الشعرية تحديداً. الصورة الشعرية لدى محمود درويش مطورة، وهي صورة حديثة اذا وضعناها في سياقها الزمني، أي كان من الشعراء الذين جددوا في الصورة الشعرية مبكراً. ولا شك أن محمود درويش الذي يمكن أن نقول انه خرج من التجربة السيابية (تجربة بدر شاكر السياب)، ترك الكثير من الأبناء.
في لبنان مثلاً ثمة مدرسة كاملة تأثرت بمحمود درويش، وهي مدرسة شعراء الجنوب. شعراء السبعينات الذين كتبوا قصيدة خارجة من نص محمود درويش، طبعاً من دون أن نغبن هؤلاء الشعراء الذين لهم صوتهم الخاص.
* شاعر وإعلامي
خسارة للأدب العالمي والعربي
| غسان جواد |
محمود درويش الشـــاعر، يمثـــل بالنــسبة إلى جيلـــنا، الجيل الأخير في القصيدة اللبـــنانية والعـــربية. رافداً من روافد هذه القصيدة، التي دعمتها وجعلـــتها تتقدم نحو مساحات جديدة في المخيلة. أعتقد أن لمحـــمود درويـــش فضلاً على كل من كتب بعد العام 1985 أو 1990 . إن لم يكن في التأثير المبـــاشر في القصـــيدة ورمزيتـــها ولـــغة محـــمود درويش. إن لم يكن من خلال التأثير المباشر، قد يكون من خلال تأثير غـــير مـــباشر، ودخول المفردة والجـــملة والـــصورة في شـــكل غير مباشر على نصوص الغالبية من أبناء هذا الجيل.
خسارة محمود درويش، هي خسارة كبيرة جداً لنا كقراء وكمتذوقين للشعر. وهي أيضاً خسارة للأدب العالمي والعربي، الذي سيفقد برحيله، أحد أبرز صناع مخيلته الواسعة والدافئة والمناضلة، المحبة والراقية والرهيفة.
* شاعر وإعلامي
في عز نضارته
| بول شاوول |
رحيل محمود درويش، كان له الدوي الصاعق في فلسطين، وفي الوطن العربي، وفي العالم أجمع. لا سيما عند الناس العاديين.
كما كان لرحيله دوي لدى المثقفين والكُتّاب. أنا شخصياً خسرت صديقاً كبيراً، وشاعرا كبيراً، وحضوراً انسانياً كبيراً.
أهمية محمود درويش تكمن في أنه زاوج بين شعر القضية والشعر الذي يتوجه الى الجمهور. أي الشعر الذي يكتبه الجمهور ويوقعه محمود درويش، وبين الشعر الآخر الحميمي والخاص. شعرالحب والتأمل والطبيعة. حيث كان للحميمية هنا وللذاتية هنا، أن تبتدعا لغة متجددة، واجتراحاً لقوة في التجاوز قلما عرفها الشعراء العرب.
محمود درويش يكاد يكون الشاعر العربي الوحيد الذي لم ينته عند أعماله الأولى، ولكنه أعطى أهم ما عنده في مرحلة النضج. أي في تلك المرحلة التي زاوج وآخى قلقه حول القضية، مع قلقه حول الشعر. أي قلقه حول القضية التي استلهم منها الشعر، وقلقه حول الشعر الذي بات عنده قضية. وهذا مهم لأن معظم الشعراء العرب تكون أعمالهم الأولى أهم ما يكتبون وبعدها يتعبون.
محمود درويش، هو المتفرد في أنه مات في عز تدفقه، وفي عز نضارته، وفي عز قلقه وفي عز صفائه. من دون أن يحدث قطيعة بينه وبين الشعر النضالي، والشعر المقاوم وشعر القضية الفلسطينية. بحيث تمازجا كالهواء، هنا الجمهور يكتب القصيدة، وهنا محمود درويش يكتب التجاوز والتجديد في القصيدة.
* شاعر وكاتب صحافي