مع الحدث

تعديلات «هيئة الأسواق» ... حذارِ التقدم إلى الوراء

u0627u0644u062fu0643u062au0648u0631 u064au0648u0633u0641 u0645u062du0645u062f u0627u0644u0639u0644u064a
الدكتور يوسف محمد العلي
تصغير
تكبير
• يريدون إلغاء التجريم قبل صدور أحكام الاستئناف في بعض القضايا ما يترتب عليه براءة المتهمين

• هل يريدون إلغاء تجريم بعض الأفعال لتعود بنا الحال الى ما كان عليه السوق قبل صدور القانون؟

• النصوص حققت الغاية التشريعية منها... قلّت جرائم التداول وانعدمت جرائم الإطلاع إلا ما ندر

• بعض المضاربين الذين كوّنوا ثرواتهم من العبث بالتداول الوهمي لم يرق لهم منع تلاعبهم
استذكر في حالات كثيرة هذه الأيام مقولة أبوحسام المطوع- رحمه الله- اننا بلد يتخلف. ويريد بذلك أن الكويت ليست بلداً متخلفاً، ولكنه يتقدم للوراء.

استذكرت هذه المقولة وأنا اقرأ تصريح مقرر لجنة الشؤون المالية بمجلس الأمة حول التعديلات الخاصة بقانون هيئة أسواق المال. وقد تكلمت في مقالين سابقين عن مالية «الهيئة» وميزانيتها وأهمية استقلالها المالي، ولكن على ما يبدو لا حياة لمن تنادي. وقد نعود للتعليق على ما انتهت اليه اللجنة في تعديلها في مقال أو مقالات قادمة.


ولكني أخصص هذه المقالة للتعليق على ما جاء على لسان مقرر اللجنة حول التعديلات المهمة كما وصفها التي اجريت على المواد (118-119-120-121-122-125) والمتعلقة بالجزاءات حيث كان القانون (وفق تصريح مقرر اللجنة المالية) في المادة (122) في السابق يقضي بإدانة اي تصرف يقوم به المتداول الذي يكون مبنيا على إيحاء زائف أو مضلل بشأن أي ورقة مالية.

وأضاف ان ذلك يدخل في النوايا وهذا ما رفضته اللجنة وحددت انه اذا كان هناك ما يثبت أن المتداول قام بأعمال زائفة وصريحة فعليا ومن خلال أدلة واثباتات فتطبق عليه الجزاءات على ان لا ندخل في النوايا (انتهى نص التصريح).

وحتى لا يتوه القارئ في لعبة الأرقام نبين ما تناولته المواد المذكورة من موضوعات: فالمادة (118) تجرم استغلال المعلومات الداخلية من المطلعين عليها، والمادة (119) تجرّم إفشاء الأسرار من قبل المطلعين عليها، والمادة (120) تجرم حجب معلومات جوهرية يوجب القانون الإفصاح عنها، والمادة (121) تتناول جرائم الإفصاح الإلزامي المقرر في القانون، والمادة (122) تعالج جرائم التداول الوهمي والمضلل، والمادة (125) تجرم الكذب على «الهيئة».

وقد يبدو من الغريب لغير المتابع هذا التركيز على التعديلات التي نالت هذه المواد في تصريح السيد مقرر اللجنة المالية. ولكنها للمتابعين هي الإجابة الحقيقية على كل هذا اللهاث والاستعجال على تعديل القانون رقم (7 لسنة 2010). بل يغلب على ظني ان السبب الحقيقي الوحيد لكل الحملة التي شنت ضد «الهيئة» والمطالبة بتعديل القانون كانت لهذا الغرض لا غير.

وحتى أكون اكثر تحديدا فالمواد المطلوب تعديلها كانت هي المواد (118) و(119) و(122)، بل لعل أهم سبب للاستعجال هو رجاء ان يصدر التعديل بإلغاء التجريم قبل صدور أحكام الاستئناف في بعض القضايا مما يترتب عليه براءة المتهمين ممن ادانتهم محكمة أول درجة.

التعليق على إنجاز اللجنة لهذه التعديلات له شقان. الأول يتمثل في فهم مبادئ القانون الجنائي، والثاني يتعلق في تنظيم أسواق المال.

أما بالنسبة للشق الأول، فنحن ندرك أن غالبية أعضاء مجلس الأمة ليسوا من أهل القانون، ولا يدركون مفاصل هذا العلم ولا دقائقه، ولا هم مطالبين بأكثر من إدراك مقاصده. ولكن لطبيعة النظام الديموقراطي الذي قوامه مؤسسة تشريعية من شتى التخصصات، فإن دعم هذا الجانب المتخصص في المؤسسة التشريعية يكون بتوفير الخبراء من القانونيين لتوفير الدعم وتسديد الخلل وترشيد المقترحات وضبط الصياغة.

فما يصدر عن المجلس التشريعي هو تشريعات يجب أن تكون متناسقة البنيان مرصوصة الأفكار منضبطة الصياغة واضحة الدلالة، تعكس فكر المشرع ومقاصده. فلا يصح أن تصدر التشريعات مبهمة الدلالة متناقضة الأحكام مشوبة بشبهات دستورية. فهذا مجال المستشارين والخبراء من القانونيين. لكن ما يصدر عن المجالس التشريعية في السنوات الاخيرة لا يعكس هذه المعاني.

وإذا كان من نعرف من خبراء مجلس الأمة الحالي هم من أساتذتنا في القانون، لا يخفى عليهم هذا التناقض التشريعي، فلا يبقى لنا الا القول بأن ممثلي الأمة قد نصبوا أنفسهم فقهاء بالقانون، فأعرضوا عن رأي الخبراء واتبعوا أهواءهم.

وخير مثال على ذلك ما نعرض له من تصريحات مقرر اللجنة المالية في مناقضة ما يقول لمبادئ القانون الجنائي. ففي تبريره لتعديلات المواد المتعلقة بتجريم بعض التصرفات في سوق المال، يبررها بأن النص الحالي يتدخل في النوايا وأن هذا لا يجوز، وفات النائب المحترم أن ما يسميه القانونيون (القصد الجنائي) ما هو إلا النية الإجرامية. بل إن القانون بكل فروعه يقيم أحكاما كثيرة على النية، فكم من حكم قانوني مبني على مبدأ حسن النية. فمثل هذا التبرير لا يصح، ولا يجوز أن تبني عليه النصوص ولا أن يكون معبرا عن إرادة المشرّع لمخالفته أصول القانون وأبسط مبادئ القانون الجنائي.

ومن المفيد التذكير هنا بأن محكمة الاستئناف قد أجابت بشكل واف على طعن دفاع أحد المتهمين بجرائم أسواق المال وردت طعنه بعدم دستورية المواد (112) و(118) و(122)، والتي بنى جانبا منها على مناقضة هذه المواد لقرينة البراءة، وعلى فكرة الجريمة السلبية، وقد ردت المحكمة بشكل مفصل على عدم جدية هذا الدفع وتأسيسه على غير صحيح القانون.

وما يهمنا هنا أن ما تعيبه اللجنة المالية على النص سبق للمحكمة وأن أجابت عنه. فهل تريد اللجنة اليوم إلغاء تجريم بعض الأفعال لتعود بنا الحال الى ما كان عليه سوق الأوراق المالية قبل صدور القانون؟ وهذا التساؤل سيقودنا الى الشق الثاني.

الشق الثاني من تعليقنا يتعلق بتنظيم سوق المال ودور هذه النصوص في التنظيم. فالمشرّع الكويتي شأنه شأن التشريعات المقارنة في مجال أسواق المال قد جرم بعض الأفعال في القانون رقم (7 لسنة 2010). وقد حرص المشرّع في تنظيمه لتجريم هذه الأفعال والعقوبات التي أوردها لها، أن يكون هذا التنظيم رادعا لمن تسول نفسه مخالفة القانون.

فليس القصد من التنظيم ولا التشدد في العقوبات هو إيقاع الجزاء بل الردع الكامن في القصد الجزائي المطلوب والردع المبني على الخوف من العقوبة. ولا شك عندي أن هذه النصوص قد حققت الغاية التشريعية منها. فقد امتنع أغلب المتداولين عن القيام بالأفعال المؤثمة، فقلت جرائم التداول الى حد بعيد، وانعدمت جرائم الاطلاع الا ما ندر.

ومن يتابع قرارات «هيئة الأسواق» في ذلك يلاحظ صدق ما نقول. إلا أن بعض المضاربين الذين كونوا ثرواتهم من العبث في سوق الكويت للاوراق المالية بالتداول الوهمي والذي يقوم على أكل أموال المتداولين بالباطل، لم يرق لهم منع تلاعبهم، ولا تجريم أفعالهم، فاشتغلوا بالبحث عن كل ثغرة، والطعن بكل مطعن على القانون، والادعاء بتعسف «الهيئة»، فلم يجدوا لهم سبيلاً ولا مدخلاً لارتكاب جرائمهم دون عقاب، ولا ربح رهانهم على الطعون القانونية أمام المحاكم، فلم يبق لهم من سبيل إلا النيل من نصوص القانون بتعديلها من خلال مجلس الأمه.

ولست بصدد الدفاع هنا عن إنجاز هيئة اسواق المال في تطبيقها للقانون وإن كان هذا واجباً، أو دفعاً ما يدعيه المضاربون من كثرة الإحالة الى النيابة في هذه الجرائم، فكل هذا يكذبه الواقع. ولكني هنا بصدد الدفاع عن التنظيم القانوني الذي جاء به القانون رقم

(7 لسنة 2010). فمن الواجب القول إن هذا التنظيم هو الصحيح، والقانون المقارن يثبت صحة ما انتهى اليه المشرع في تنظيمه لقانون «هيئة اسواق المال».

وأن التعديل الذي وافقت عليه اللجنه المالية هو التقدم الى الوراء والرجوع في سوق الأوراق المالية إلى الفوضى التي كانت قبل صدور القانون في العام 2010. فليس في إلغاء التجريم أو حتى إجازة جانب من المضاربات التي جرمها النص الحالي إلا العودة الى التداول الوهمي وتغوّل أموال صغار المساهمين والمستثمرين من عامة الناس.

والعودة الى غلبة المضاربات الى السوق، ونقض كل أمل في تنظيم السوق الكويتية بما يجذب الاستثمار الأجنبي أو يحقق الرغبة السامية في تحويل الكويت الى مركز مالي اقليمي.

باختصار نحذّر من مغبة الانحراف بالتشريع لتحقيق مآرب شخصية ضيقة على حساب المصلحة العامة للبلد، وعلى حساب التنظيم القانوني السليم لسوق المال، والعودة إلى الفوضى التي كانت قبل صدور القانون، والتي انتجت لنا أزمات مالية يعرفها ويعرف أسبابها الجميع.

مفوض سابق – هيئة أسواق المال

عضو لجنة إعداد القانون

رئيس لجنة إعداد اللائحة التنفيذية

dralali@dralali-lawfirm.net
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي