«أبو الهول» يخرج عن صمته ... ويفرّ إلى جهة غير معلومة

تصغير
تكبير
• أدباء شغلتهم السياسة عن الإبداع ومثقفون يتربّصون ببعضهم من أجل المناصب واقتناص الجوائز

• أنصاف المواهب تعتلي المنصّات ... وأدعياء ينظّرون في أخطر القضايا بكلام فارغ يعبّر عن الغوغائية والانهزام

• جمهور زهدت مشاعره في تناول الثقافة على موائد كان يعدها أرقى الأدباء

• فنانون يتصارعون في الترويج للهابط من الأعمال من أجل نيل أكبر قسط من الانتشار

• شجاعة عباس محمود العقاد جعلته يرفض رغبة الملك فؤاد في إسقاط عبارتين من الدستور تنص إحداهما على أن الأمة مصدر السلطات والأخرى أن الوزارة مسؤولة أمام البرلمان

• في منتصف الليل قبل أن يطوي عام 2014 أخر لحظاته كان أبو الهول قد ركب سحابة أتته من أول الزمان وانطلق إلى جهة غير معلومة ... وكان يتمتم بكلمات غير مفهومة

• نظر بإعجاب إلى المصري القبطي مكرم عبيد وهو يقول «اللهم يا رب المسلمين والنصارى اجعلنا نحن المسلمين لك وللوطن انصارا، واجعلنا نحن نصارى لك، وللوطن مسلمين».

• بعد متابعة مضنية عاد الكهنة إلى غرفتهم السرية في جوف أبو الهول محمّلين بأخبار مفعمة بالشقاء وبمدوّنات مثقلة بالأحداث والآلام

• لم يتدرب المثقفون والأدباء والمفكرون على استلهام سيرة الوطن من أجل الخروج من دوائر الوهم والدخول إلى شوارع الحقيقة

• الساحة لم تتمكن من إنتاج أدب أو فكر يزيل الغشاوة ويبعث الأمل في قلوب البسطاء ويكشف الحقائق جلية أمام الناس
يقول الراوي:

انه لما اشتد الحزن على أبو الهول، واعتل بدنه الموغل في القدم، وأصبح غير قادر على أن يظل صامتا، بينما الأحلام تتطاير من أمامه، والأهوال تنحت صورا مؤلمة في ذهنه، ورأى- في ما رأى- أن الحق تلبسه الباطل، والرهبة تجري مجرى الدم في الشرايين...

استدعى كهنته الرابضين منذ آلاف السنين في غرفة سرية موضوعة في جوفه، واوحى لهم أن يخرجوا إلى الناس... في هيئة طيور وأشباح وكائنات خفية يستطلعون الأسباب، التي أدت إلى سقوط الأحلام في هذا العصر الملتهب بالأحداث، وتنازل المثقفين عن مكانتهم في المجتمع، وانشغالهم بالصراعات في مجالس السياسة وميادين المصالح الملتبسة، بينما الضعف ينخر كالدودة النهمة في الأجساد.

وفي لحظة خاطفة كالومضة... انتشر الكهنة في هيئاتهم الجديدة، وطافوا كل شوارع المحروسة وحواريها وميادينها وقراها القريبة والنائية.

وراحوا يتطلعون في الوجوه، ويرصدون علامات الفزع المنتشرة في العيون، والقلق المتسلق أكتاف البسطاء، ويدونون ما تقع عليه أحداقهم- المفتوحة إلى آخرها- تلك الأحداث، التي تبدو كالنار المشتعلة في الهشيم.

أدباء شغلتهم السياسة عن الإبداع، ومثقفون يتربصون ببعضهم، من أجل المناصب واقتناص الجوائز.

وأنصاف المواهب تعتلي المنصات، وأدعياء ينظّرون في أخطر القضايا بكلام فارغ يعبر عن الغوغائية والانهزام.

وفنانون... يتصارعون في الترويج للهابط من الأعمال، من اجل نيل اكبر قسط من الانتشار، وهناك جمهور فسدت أذواقه... وزهدت مشاعره في تناول الثقافة على موائد كان يعدها أرقى الأدباء، وأصبح لا يرى في الفنون والآداب إلا أدوات للتسلية وقتل أوقات الفراغ.

وقتها... بهت الكهنة من هول ما تشاهده أعينهم من تخبط طال كل الأشياء...

وبعد وقت ليس بكثير من المتابعة... وجد الكهنة أن المدونات التي بين ايديهم تضخمت وصارت كالجبال العاليات، بفضل ما تحتويه من ملاحظات تفوح منها روائح نتنة، وأحداث عفنة.

وأصاب الكهنة حالات نادرة من الاندهاش، وهم يشاهدون المثقفين على الشاشات، وفي مواقع التواصل الاجتماعي، يبيعون ضمائرهم بأقل الأسعار، ويعرضون أحلامهم في الأسواق، بمبالغ زهيدة... وأثمان لا تتعدى منصب أو وعد بهدية.

بينما الثقافة مهملة ليس لها القدرة على التأثير، لأنها تخرج من أفئدة مشغولة بالمصلحة، عن خدمة الفنون والآداب وتقديم المساعدة للناس، والكشف عن مكامن الأخطار، بإبداع وفكر ورؤى... تتسم بالصدق والجدية والإخلاص... في ما أصبحت آمال البسطاء كالريشة تتطاير بلا هداية أو مصير.

وبعد متابعة مضنية عاد الكهنة إلى غرفتهم السرية في جوف أبو الهول، محملين بأخبار مفعمة بالشقاء، وبمدونات مثقلة بالأحداث والآلام.

وكانت أعين الكهنة زائغة... خائفة مما ستُحِدثه اخبارهم من ألم، قد يصيب أبو الهول بالصدمة، تجعله يعود ثانية إلى الصمت.

وبعد برهة من التفكير... خرجوا واجمين، ووقفوا أمام أبو الهول في محاذات لوحة الحلم، التي وضع فيها تحتمس الرابع مصيره في الحكم.

وقفوا صامتين كأن على رؤوسهم الطير...

غير أن أبو الهول... العارف ببواطن الأمور، فطن إلى ما تخبئه مشاعر الكهنة من اليأس والأرق.

نظر إليهم بعينين شاخصتين دامعتين، وقال في نبرة تتسم بالكثير من الحزن:

اعلموا... أنني استدعيتكم لأنني كدت أن اكذب معرفتي... وكدت أن أكذب الأخبار التي أشاهدها من موقعي الرابض فوق هضبة الجيزة... وكدت أن أكذب مشاعري التي امتحنتها منذ آلاف السنين، فتأكدت أنها صادقة في رؤياها، ومخلصة في رصدها.

أنا الذي عشت عصورا مصرية، بعضها كان غاية في الإظلام، وبعضها الآخر غاية في التنوير... رأيت البلاد وهي تتمدد على الأرصفة الرطبة، جراء ما كان يحل بها من شقاء، ورأيتها في أحوال أخرى تتباهى بأبنائها أولئك الذين كانوا يشرقون بالحب والعمل والوحدة.

كنت أبكي معهم على ضياع الآمال وسقوط الأحلام، وأفرح بتماسكهم وتعلق أفئدتهم بتراب الوطن.

شاهدت انتصارات كثيرة... وهزائم كثيرة،.

غير أنني لم أشاهد أبدا كمثل هذا العصر، من تدن في المستوى والمضمون.

فالأحداث الكبيرة حدثت وقام الشعب بثورته، وتبدلت الأحوال... بين شد وجذب، وتداخلت الرؤى والأحداث في شبكة عصية على الفهم، وأصبح الأعلى أسفل، والأسفل أعلى، وتناقضت الرؤى في ما بينها، ودخلت المفاهيم في صراعات غير مبررة، وتثاقلت الخطوات على الأرصفة، وعمت الفوضى، وتسابق المتسابقون في اقتناص الفرص، وتحريف القيم، بينما الشعب غير قادر على أن يفصل الحقيقة عن الخيال... والصدق عن الضلال... والكرامة عن مشاعر الإذلال.

في هذا الوقت من هذا العصر... الذي انشغل المثقفون فيه بأنفسهم، أرى أن الساحة لم تتمكن من إنتاج أدب أو فكر يزيل الغشاوة، ويبعث الأمل في قلوب البسطاء، ويكشف الحقائق... جلية أمام الناس. ولم يتدرب المثقفون والأدباء والمفكرون على استلهام سيرة الوطن، من أجل الخروج من دوائر الوهم، والدخول إلى شوارع الحقيقة.

لنقرأ قصائد محشورة في كلمات ضالة، لا تعبر أبدا عن الحدث الجلل، إنها كلمات مقطوعة وليست مزروعة، مخنوقة بالتصنع والرياء، ولم ينج من هذه المسألة إلا من وضع صمته في مواجهة الكراهية والضلال، أولئك... هم قلة وليس لهم في الساحة أي تأثير، بعدما أصبحت الحناجر العالية الفارغة، هي المسيطرة على كل المشهد من أوله حتى آخره.

وفي لحظة خاطفة استدعى ابو الهول عصرا ليس ببعيد، كانت فيه مصر تحت حكم الملوك.

غير أن الثقافة كانت مزهوة بالنور، ومتوجة بالإبهار.

ابتسم وهو يستمع بحب إلى قصيدة غاية في الألق يلقيها على الجارم...

ثم نظر في لحظات أخرى إلى سيرة قاسم أمين... رجل الاصلاح الاجتماعي في عصر النهضة.

واستمع إلى مصطفى كامل وهو يقول حكمته: «لا معنى لليأس مع الحياة ولا معنى للحياة مع اليأس».

ورأى هدى شعراوى تعمل بحماس في جمعية لرعاية الأطفال أسستها بنفسها، وكان يحس بالفخر عقب رؤيتها تقود مظاهرات السيدات.

وأخذ يستمع بحرص إلى أحاديث «باحثة البادية»... ملك حفنى ناصف في الثقافة والأدب.

بينما تأمل أبو الهول فارس السيف والقلم الشاعر محمود سامي البارودي، وهو يتشوق إلى بلده... في منفاه «سرنديب»، ويقرض قصائده الخالدة، التي يعلن فيها آلامه وحنينه إلى وطنه.

وابتسم وهو يرى الفرح يسيطر على وجه علي مبارك، بعد أن تمكن من تشييد دار العلوم.

وكانت نظراته متوهجة بالفخر وهو يرى محمد فريد واقفا يدافع عن نفسه اثناء المحاكمة بسبب مقدمة كتبها لديوان شعر يشرح فيها «اثر الشعر في تربية الامم».

وينظر بإعجاب إلى المصري القبطي مكرم عبيد وهو يقول:«اللهم يا رب المسلمين والنصارى اجعلنا نحن المسلمين لك وللوطن انصارا، واجعلنا نحن نصارى لك، وللوطن مسلمين».

وهز ابو الهول رأسه في سعادة وهو يرى شجاعة عباس محمود العقاد في رفضه لإسقاط الملك فؤاد لعبارتين من الدستور، تنص إحداهما على أن الأمة مصدر السلطات، والأخرى أن الوزارة مسؤولة أمام البرلمان، وكان فخورا به أكثر وهو يرفض جائزة الدولة التقديرية في الآداب من جمال عبد الناصر ويرفض الدكتوراه الفخرية من جامعة القاهرة. وهو الأديب الذي لم يحصل على شهادة جامعية، والذي تُرجم كتابه «الله» إلى الفارسية، وعبقرية محمد وعبقرية الإمام علي، وأبو الشهداء إلى الفارسية، والأردية، والملاوية، كما تُرجمت بعضا من كتبه إلى الألمانية والفرنسية والروسية.

واتسعت ابتسامة أبو الهول وهو يتابع بشغف وفخر أعمال رفاعة الطهطاوي... رائد النهضة الفكرية في مصر الحديثة وهو يساهم في تأسيس دعائم العلم والثقافة في بلده.

ليزداد أبو الهول انبهارا بالطهطاوي وهو يعمل في مكاتب محو الأمية لنشر العلم بين الناس والترجمة (المعاصرة) واستخدام مطبعة بولاق لنشر أمهات كتب التراث العربي الأصالة.

واستذكر أبو الهول المبدع إبراهيم عبد القادر المازني... الشاعر والناقد والصحافي والروائي.

واستمتع بالرؤية الإصلاحية لمحمد رشيد رضا، صاحب مجلة المنار وتفسير المنار.

وكان أبو الهول متوهجا بالحب وهو يشاهد طه حسين قاهر الظلام... يفتن العالم بلغته القوية ومنطقه شديد المتعة وأدبه وانجازاته المبهرة.

ثم ازداد انبهارا برائد الرواية والكتابة المسرحية توفيق الحكيم.

ودخل أبو الهول إلى قرية بهتيم في محافظة القليوبية التي ولد فيها مصطفى صادق الرافعي وسمع الناس وهم يتحدثون عن ابن قريتهم... الذي يرونه معجزة الأدب العربي.

وتعلقت مشاعره بالجمال وهو يشدو بقصيدة كتبها منذ لحظات أمير الشعراء أحمد شوقي.

وطرب أبو الهول في امسية يحيها شاعر النيل حافظ ابراهيم وهو يتغنى بقصائد غاية في المتعة.

في ما جلس أبو الهول على مقربة من شاطئ النيل وهو يقرأ رواية ليحيى حقي فانبهر بالروعة وجمال التصوير الروائي.

وجلس أبو الهول على حجر موضوع في مدخل حي الجمالية وأخرج رواية «عبث الأقدار» مستمتعا بالأسلوب المفعم بالحيوية لنجيب محفوظ.

وشعر أبو الهول بالحب يسيطر على مشاعره خلسة وهو يقلب بشغف في رواية لإحسان عبد القدوس.

يقول الراوي:

أنه وفي لحظة خاطفة أشبه بالكابوس الذي يسطر على النائم... بينما كان أبو الهول يتنقل بخفة بين صفوف ومجالس الأدباء والمثقفين في عصور حكامها من الملوك، عاد إلى العصر الراهن، إثر سماعه لدوي انفجار هز الهضبة من تحته، ورأي ناسا كثيرين يهرولون هنا وهناك.

والفضائيات تتناقض في نقل الأحداث، والمثقفون يحللون حسب ما ينسجم مع المزاج، والناس حائرة بين هذا القول ونقيضه.

وقتها وقف أبو الهول ناقما على الحياة، زاهدا في مكوثه التاريخي فوق هضبة الجيزة... عازما على الفرار من نفسه وحياته.

يقول الراوية:

إنه في منتصف الليل قبل أن يطوي عام 2014 أخر لحظاته كان أبو الهول قد ركب سحابة أتته من أول الزمان، وانطلق إلى جهة غير معلومة. وكان يتمتم بكلمات غير مفهومة، ويلهج بحروف غامضة تشبه التميمة، أو حديث ناسك مهموم.

وأن الكهنة حينما وجدوا أنفسهم في موقف مهيب، وضعف رهيب، كرسوا كل طاقاتهم السحرية... في تشييد تمثال يشبه أبو الهول، غير أنه لم يعد شاهدا على العصور، ولم تعد هيبته تميمة على هضبة الجيزة.

وإنه كل من يرى أبو الهول الآن... يعتقد أنه يرى هذه المعجزة التي بقيت خالدة رغم تواتر العصور، ولكنه ان كلف خاطره ونظر بعمق إلى وجه هذا التمثال الشبيه- الذي تعلوه البلادة- سيتأكد أنه يرى شيئا آخر يختلف عن أبو الهول... الشاهد على مختلف العصور، والعبقرية التي فرضها التاريخ على مراحل الزمان.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي