قوس قزح / بين النقد والتجريح

| u062f. u0623u064au0645u0646 u0628u0643u0631 |
| د. أيمن بكر |
تصغير
تكبير
من معاني كلمة «النقد» في اللغة: تمييز الدراهم، أي معرفة صحيحها من فاسدها، وعلى ذلك يكون الناقد هو الخبير العارف بعيوب العملات الزائفة وكذلك ميزات العملات الحقيقية. إنه الشخص الذي درب عينه على اختراق السطح وصولا إلى ما تحته. وبعيدا عن أن تزييف العملات قديم قدم فكرة النقود نفسها، لا ينفصل استخدامنا الحديث للكلمة عن معناها الأصلي وإن صار التركيز في الاستخدام اليومي على فكرة إظهار العيوب. نحن نقول: فلان ينتقد فلانا أي إنه يتحدث عن عيوبه مبرزا إياها. وفي مجال النقد الأدبي كان الاستخدام الأول لكلمة نقد يكاد يتطابق مع معناها المعجمي. فكان الناقد يعمل على التمييز بين جيد «النصوص» ورديئها، ويكون نصه «النقدي» هو تفصيل الكلام في أسباب الجودة كما في أسباب الرداءة. إنه خبير مدرب العينين في رؤية العمق، كما أنه قادر على التعبير عما يراه.

ومع اتساع دائرة العلوم وتعدد مدارس التحليل لم يعد النقد مقتصرا على ثنائية الجيد والرديء، ولم يعد عمل الناقد منحصرا في التمييز بين النصوص وإصدار حكم أشبه بالحكم الجنائي على كتابها، بل صار النقد بحسب تعريف بعض المفكرين «صيغة من صيغ المعرفة»، وهي صيغة قوامها التحليل والرغبة في تحقيق فهم أعمق للنصوص أو الظواهر التي يتناولها الناقد كخطوة أساسية باتجاه فهم الإنسان والعالم من حوله. انفلت النقد إذن منذ عقود من حالة التقييم والمعايرة البسيطة التي تتصل بالمعنى اللغوي للكلمة. بل إن مجال النقد الآن يذوب في مجالات أخرى ـ أو لعلها هي التي تذوب فيه ـ من مثل الفلسفة وعلم النفس والتاريخ وعلم الاجتماع.

لكن يبقى للنقد بالمعنى اللغوي حضور طاغ في الثقافة العربية، ويمكنك أن تكتشف ذلك حين تتوجه بالتحليل الناقد نحو شخص أو مؤسسة أو فكرة، إذ سيفجعك أولا أن وعي النخب مثلها في ذلك مثل عامة الناس يختصر أي فعل نقدي في حالة تناحر بدائية غرضها إظهار العيوب بهدف التجريح. وعلى ذلك لن يفهم أحد نقدك- أيا كانت نزاهته- بوصفه رغبة عميقة في التحليل الساعي للفهم وإثراء الوعي، بل سريعا ما سيتحول النقد إلى حالة صراع بين ذوات مهتزة تشعر بالانجراح. بعبارة أخرى؛ يبدو أن فكرة النقد في ثقافتنا العربية قد وقف نموها عند حدود المعنى اللغوي، كما يبدو أن قابليتنا للانجراح قد جعلت كلمة النقد مرادفة ومكافئة للهجوم أو العدوان أو الرغبة في التجريح.

يصل الأمر إلى حدود كوميدية أحيانا، حين يبدأ حوار بين شخصين يحاول أحدهما تحليل موقف له علاقة ضعيفة بالطرف الآخر، فتنتبه قرون الاستشعار المتحفزة لدى الطرف الثاني ويفهم الأمر كله بوصفه هجوما شخصيا عليه. ولأنه ذكي أريب يعرف كيف يرد الصاع صاعين، سينتظر إلى أن ينتهي الطرف الأول من تحليله (وسنفترض هنا أنه كان تحليلا وليس هجوما) ثم يبدأ في الرد بما يشبه التحليل موجها سهاما خفية من التجريح والعدوان على الطرف الأول، ومتجاهلا الكثير من نقاط التحليل الموضوعية التي لا تمس شخصه. وبالطبع ستعمل قرون استشعار الطرف الأول الذي ربما بدأ كلامه ببراءة، فيستخدم خبرته وذكاءه كي يرد الهجوم الشخصي بأعنف منه متجاهلا المزيد من نقاط التحليل العامة. وهكذا يختفي الحوار وتتبخر الأفكار التي يمكنها أن تزيد من فهم الطرفين للإنسان والعالم، أي تختفي إمكانية التعاون العقلي لتحليل ظاهرة وفهمها، وتتبقى حالة من التناحر الشخصي الذي يزيد من هشاشة طرفي الحوار وشعورهما بالانجراح. يحدث الأمر نفسه في محاورات النخب، وكتاباتها «النقدية» عن بعضها البعض. النقد عندنا تابع ذليل لأمراضنا الثقافية والنفسية، فأصبح مهارة عقلية مقتصرة على إبراز العيوب، ما جعله يتقلص وينكمش في حدود معناه اللغوي القديم: تمييز الدراهم.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي