ترجمة / «حياة نابليون» لأندرو روبرتس ... والانتصار المطلق لرجل صنع نفسه بنفسه

نابليون يعبر جبال الألب ... في لوحة


في الثاني والعشرين من يوليو عام 1789، وبعد أسبوع من اقتحام الباستيل في باريس، كتب نابليون بونابرت الى أخيه الأكبر، جوزيف، يخبره أنه لم يكن هناك ما يثير القلق: «سيعود الهدوء من جديد. خلال شهر». كان تقديره خاطئاً، لكن لعله أخذ تقديره الخاطئ على محمل الجد، فقد أمضى بقية حياته محاولاً تحقيق المجد والنظام الى فرنسا، بتأسيس نوع جديد من الإمبراطوريات. وفي الوقت الذي تم تتويجه فيه إمبراطوراً، في الثاني من ديسمبر من عام 1804، فقد كان بامكانه أن يقول «أنا الثورة». وطبقا لما ذكره المؤرخ أندرو روبرتس ومؤلف السيرة الذاتية الملحمية الجديدة «حياة نابليون»، فقد كان ذلك انتصاراً مطلقاً لرجل صنع نفسه بنفسه، رجل غريب من كورسيكا، ارتقى لأعلى مراتب الحياة السياسية الفرنسية، ورسّخ أفضل ما في الثورة الفرنسية من خلال إصلاحاته القانونية والتربوية والإدارية. مثل تلك الخطوط الخارجية العريضة توضح ما كان نابليون يعنيه بقوله لبطله الأدبي (غوتة) في اجتماع في (إيرفور): «السياسة مصير».
في عبارته تلك، لم يكن نابليون يعني «القول بالقضاء والقدر»، وإنما يعني أن الفعل السياسي لا يمكن تفاديه، متى أردت مجداً شخصياً وقومياً. والأمر يتطلب حظاً عظيماً ورغبة في إبداء الحزم عند الضرورة. وإن بدا ذلك تفكيرا ماكيافيليا، فالسبب هو أن مناظرات ماكيافيلي حول السياسة هي التي شكّلت ضمير (نابليون). سواء أكان ذلك في تقدير الحظ في صورة امرأة أو نهر وجب ترويضه وكبح جماحه، أو افتراض أنه في السياسة، سيكون من الأفضل أن يخافك الآخرون بدلا من أن يحبوك. وجهات النظر هذه مضت جنباً الى جنب مع الرؤى السياسية العظيمة التي احتوتها التواريخ والسير الذاتية التي وقّرها نابليون وهو صغير، وكان يُذكّر بعبارته الهادئة والقاسية «سفك الدماء هي إحدى مكونات الدواء السياسي».
وقد تضمنت استراتيجيته دائما كتابة الآلاف من الخطابات والخطط، في أسلوب إداري شخصي ينادي بالقليل من النوم والكثير من العمل السريع. وكان يميل الى من يقرأ له وهو يستحم كي لا يضيّع ولو دقيقة. وكان حازما في الفصل بين الحياة الشخصية والعامة، ففي لحظة تجده يُوفّر الأحذية والشراب لأفراد جيشه، وفي اللحظة التي تليها تجده يُوجّه الحياة الشخصية لأقربائه، أو يكتب خطابات غرامية لـ (جوزفين )، أو يضمن في مكان ما «المساهمات» المادّية الكبيرة من أولئك الذين هزمهم، بينما يناقش في مكان آخر، الغنائم التي يُرسلها الى (باريس)، خاصة من رحلته الاستكشافية المذهلة في (مصر)، حيث «لم يفوت علماؤه شيئا». الرجل العادي والسياسي يسيران معا، جنبا الى جنب في عقله.
رغم ذلك، فعندما اقترح معاونه وصديقه السياسي الوفي لفترة طويلة (شارلز موريس دي تاليراند) أن يحاول (نابليون) أن يِحمل من قهرهم على حب (فرنسا)، أجاب (نابليون) أن الأمر لاعلاقة له بالحب، وقال «الحب، لست أدري حقا ما تعنيه الكلمة متى طبقتها على السياسة». كما أنه آمن أنه إذا كانت هناك استراتيجية كبرى ومصلحة وطنية تكمن وراء الشؤون الخارجية، فهناك رغم ذلك، سلوكيات أخلاقية يجب الالتزام بها. لذلك فعندما استغل (دي تاليراند) قُربَه من (نابليون) وربح الملايين، استدعاه الأخير وقام بطرده من منصبه. أدرك (نابليون) تلك الإغراءات التي تأتي مع السلطة، فهو شخصيا يميل للجانب المنتصر، فكان يدعم بانتظام أي شكل من الأديان المحلية التي قد تساعده عسكرياً. برغم ذلك، فان (نابليون) الذي كتب عنه (روبرتس) كان جندياً ورجل دولة و«مفكراً ذا إيمان عميق»، استغل الفرص المناسبة من أكثر المفكرين في السياسة على الإطلاق. واختبار نفسه مع القدر بدا أنه كان مصدر قوته الداخلية. فـ ( نابليون ) الذي كان دخيلاً نسبياً على نخبة المجتمع الفرنسي، شقَّ طريقه لأعلى المراتب من خلال العمل الدؤوب، وإظهار أفضل ما لديه من مواهب طبيعية، خصوصا في مجال الرياضيات والمدفعية. وكان من بين القلّة التي تم اختيارها للانضمام للمدرسة العسكرية في باريس، وهناك انتهز كل فرصة اتيحت له. وكان شاباً متجهماً ولا يتحدث إلا لماما، و«كانت تسليته فكرية أكثر منها اجتماعية». ورغم أنه حقق زيجة سعيدة بطبيعة الحال مع (جوزفين)، إلا إنه ألغى زواجه منها لأسباب استراتيجية.
وعندما دخل في وقت مبكر من حياته في المشهد السياسي، فقد كان سعيدا بتعيينه في المكتب التاريخي والطبوغرافي في وزارة الحرب، الذي وُصِفَ بأنه «أكثر هيئات التخطيط تطورا في زمانه». لكن قبل أن يفوز بأي سلطة سياسية، كان على (نابليون) أن يقمع أعداء فرنسا الثورية الكثيرين، خصوصا النمسا وما أسماه أحد المراقبين بالتعبير الجيو سياسي (إيطاليا).
ويستعرض روبرتس بذكاء، الطاقة الزائدة والحضور الذي يتمتع به نابليون، ذلك الرجل التنظيمي والعسكري المحنّك، الذي يقوم عبر الاستجواب القاسي والمتواصل، بتكوين رأي حول الناس والمشكلات، يقوم بعدها بتقديم القرارات الحاسمة. كانت صلته بالجنود فريدة من نوعها، وقدرته كبيرة على تكوين مفهوم راسخ للسلطة، في الوقت الذي يستفيد فيه من تحول المواقف، كل ذلك جعل منه، ليس فقط جنديا مذهلا، وإنما أيضا رجل دولة بارعا. كنت تجده مسترخيا تماما وهو في مواجهات درامية لساعات مع الأمير مترنيخ أمير النمسا في قصر ماركوليني، أو على مركب مع القيصر ألكسندر وسط نهر نيمان يناقش مسألة إعادة تنظيم أوروبا، أو حتى وهو يشق طريقه وسط خطوط العدو. وقد تجسَّد نشاطه المفرط في الفصول التي كتبها المؤلف حول المعارك الكبرى التي خاضها نابليون مثل (آوسترليتس) و(جينا) و(مارينغو)، ويحوّل خلالها المناورات العسكرية الوهمية الى لحظات من الطاقة السياسية، التي يمكن أن تقوّي أعمدة حكمه الأربعة في وطنه- ضرائب منخفضة، وحقوق ملكية، وسلطة مركزية، ومجد قومي. وعندما فقد قرني الاستشعارالسياسيين في آخر المطاف، كانت النتائج كارثية بالنسبة له. إذ حاول، من خلال (الحصار الاقتصادي القاري) عمل مقاطعة للبضائع البريطانية لإلحاق الضرر بعدوه البريطاني الذي لم يتمكن هو من هزيمته في البحر، فعادت عليه تلك المقاطعة بالضرر. وبنت انجلترا تحالفات متوالية ضد فرنسا، وفي النهاية سقط نابليون في فخ تحالف كان أشبه بالمستنقعات التي كانت تعيق تقدم قواته في حملته العسكرية الفاشلة ضد روسيا. فبينما كانت موسكو تحترق، كان الروس يفوقونه في العدد والتخطيط، في الوقت الذي قضى فيه مرض التيفوس على ثلث قواته تقريبا.
وفي أثناء تقهقر قواته، فقد هاجمه أعداؤه بضراوة، ومع ذلك، تمكن مهندسوه من ابتكار وسيلة هرب مذهلة، فقاموا بصنع جسور مرنة على نهر بيريزينا القارس البرودة، واختبأوا من عيون الجيش الروسي المتقدم. لكن حتى ذلك لم يمنع الهزيمة المحتومة، وذاق نابليون طعم الهزيمة في (ليبزغ)، في نفس الوقت دخل فيه (ولينغتون) الى (فرنسا)، وساند (تاليراند) الماكر عودة ملوك أسرة بوربون، وتم إجبار نابليون على الذهاب الى المنفى في جزيرة ألبا. ورغم أنه استعاد باريس في انقلاب آخر، فان هزيمته النهائية في (واترلو)، كما ألمح (روبرتس)، كانت مأسوية وغريبة للغاية، إذ جاءت نتيجة أخطاء بسيطة. وخلال نفيه الثاني، الى جزيرة (سانت هيلانة)، مات (نابليون) بسرطان المعدة في عام 1821، في سن الحادية والخمسين، ليقع أخيرا ضحية قدر لم يتمكن حتى من السيطرة عليه.
( 1 ) دكتور أندرو روبرتس: مؤرخ
بريطاني، ومذيع ومؤلف حققت كتبه أفضل المبيعات، واعتبرته جريدة الإيكونوميست «أفضل مؤرخ عسكري بريطاني» عندما فاز كتابه «عاصفة الحرب» بجائزة التاريخ العسكري للجيش البريطاني.
( 2 ) يقوم دانكان كيلي بتدريس مادة الفكر السياسي بجامعة كامبردج
في عبارته تلك، لم يكن نابليون يعني «القول بالقضاء والقدر»، وإنما يعني أن الفعل السياسي لا يمكن تفاديه، متى أردت مجداً شخصياً وقومياً. والأمر يتطلب حظاً عظيماً ورغبة في إبداء الحزم عند الضرورة. وإن بدا ذلك تفكيرا ماكيافيليا، فالسبب هو أن مناظرات ماكيافيلي حول السياسة هي التي شكّلت ضمير (نابليون). سواء أكان ذلك في تقدير الحظ في صورة امرأة أو نهر وجب ترويضه وكبح جماحه، أو افتراض أنه في السياسة، سيكون من الأفضل أن يخافك الآخرون بدلا من أن يحبوك. وجهات النظر هذه مضت جنباً الى جنب مع الرؤى السياسية العظيمة التي احتوتها التواريخ والسير الذاتية التي وقّرها نابليون وهو صغير، وكان يُذكّر بعبارته الهادئة والقاسية «سفك الدماء هي إحدى مكونات الدواء السياسي».
وقد تضمنت استراتيجيته دائما كتابة الآلاف من الخطابات والخطط، في أسلوب إداري شخصي ينادي بالقليل من النوم والكثير من العمل السريع. وكان يميل الى من يقرأ له وهو يستحم كي لا يضيّع ولو دقيقة. وكان حازما في الفصل بين الحياة الشخصية والعامة، ففي لحظة تجده يُوفّر الأحذية والشراب لأفراد جيشه، وفي اللحظة التي تليها تجده يُوجّه الحياة الشخصية لأقربائه، أو يكتب خطابات غرامية لـ (جوزفين )، أو يضمن في مكان ما «المساهمات» المادّية الكبيرة من أولئك الذين هزمهم، بينما يناقش في مكان آخر، الغنائم التي يُرسلها الى (باريس)، خاصة من رحلته الاستكشافية المذهلة في (مصر)، حيث «لم يفوت علماؤه شيئا». الرجل العادي والسياسي يسيران معا، جنبا الى جنب في عقله.
رغم ذلك، فعندما اقترح معاونه وصديقه السياسي الوفي لفترة طويلة (شارلز موريس دي تاليراند) أن يحاول (نابليون) أن يِحمل من قهرهم على حب (فرنسا)، أجاب (نابليون) أن الأمر لاعلاقة له بالحب، وقال «الحب، لست أدري حقا ما تعنيه الكلمة متى طبقتها على السياسة». كما أنه آمن أنه إذا كانت هناك استراتيجية كبرى ومصلحة وطنية تكمن وراء الشؤون الخارجية، فهناك رغم ذلك، سلوكيات أخلاقية يجب الالتزام بها. لذلك فعندما استغل (دي تاليراند) قُربَه من (نابليون) وربح الملايين، استدعاه الأخير وقام بطرده من منصبه. أدرك (نابليون) تلك الإغراءات التي تأتي مع السلطة، فهو شخصيا يميل للجانب المنتصر، فكان يدعم بانتظام أي شكل من الأديان المحلية التي قد تساعده عسكرياً. برغم ذلك، فان (نابليون) الذي كتب عنه (روبرتس) كان جندياً ورجل دولة و«مفكراً ذا إيمان عميق»، استغل الفرص المناسبة من أكثر المفكرين في السياسة على الإطلاق. واختبار نفسه مع القدر بدا أنه كان مصدر قوته الداخلية. فـ ( نابليون ) الذي كان دخيلاً نسبياً على نخبة المجتمع الفرنسي، شقَّ طريقه لأعلى المراتب من خلال العمل الدؤوب، وإظهار أفضل ما لديه من مواهب طبيعية، خصوصا في مجال الرياضيات والمدفعية. وكان من بين القلّة التي تم اختيارها للانضمام للمدرسة العسكرية في باريس، وهناك انتهز كل فرصة اتيحت له. وكان شاباً متجهماً ولا يتحدث إلا لماما، و«كانت تسليته فكرية أكثر منها اجتماعية». ورغم أنه حقق زيجة سعيدة بطبيعة الحال مع (جوزفين)، إلا إنه ألغى زواجه منها لأسباب استراتيجية.
وعندما دخل في وقت مبكر من حياته في المشهد السياسي، فقد كان سعيدا بتعيينه في المكتب التاريخي والطبوغرافي في وزارة الحرب، الذي وُصِفَ بأنه «أكثر هيئات التخطيط تطورا في زمانه». لكن قبل أن يفوز بأي سلطة سياسية، كان على (نابليون) أن يقمع أعداء فرنسا الثورية الكثيرين، خصوصا النمسا وما أسماه أحد المراقبين بالتعبير الجيو سياسي (إيطاليا).
ويستعرض روبرتس بذكاء، الطاقة الزائدة والحضور الذي يتمتع به نابليون، ذلك الرجل التنظيمي والعسكري المحنّك، الذي يقوم عبر الاستجواب القاسي والمتواصل، بتكوين رأي حول الناس والمشكلات، يقوم بعدها بتقديم القرارات الحاسمة. كانت صلته بالجنود فريدة من نوعها، وقدرته كبيرة على تكوين مفهوم راسخ للسلطة، في الوقت الذي يستفيد فيه من تحول المواقف، كل ذلك جعل منه، ليس فقط جنديا مذهلا، وإنما أيضا رجل دولة بارعا. كنت تجده مسترخيا تماما وهو في مواجهات درامية لساعات مع الأمير مترنيخ أمير النمسا في قصر ماركوليني، أو على مركب مع القيصر ألكسندر وسط نهر نيمان يناقش مسألة إعادة تنظيم أوروبا، أو حتى وهو يشق طريقه وسط خطوط العدو. وقد تجسَّد نشاطه المفرط في الفصول التي كتبها المؤلف حول المعارك الكبرى التي خاضها نابليون مثل (آوسترليتس) و(جينا) و(مارينغو)، ويحوّل خلالها المناورات العسكرية الوهمية الى لحظات من الطاقة السياسية، التي يمكن أن تقوّي أعمدة حكمه الأربعة في وطنه- ضرائب منخفضة، وحقوق ملكية، وسلطة مركزية، ومجد قومي. وعندما فقد قرني الاستشعارالسياسيين في آخر المطاف، كانت النتائج كارثية بالنسبة له. إذ حاول، من خلال (الحصار الاقتصادي القاري) عمل مقاطعة للبضائع البريطانية لإلحاق الضرر بعدوه البريطاني الذي لم يتمكن هو من هزيمته في البحر، فعادت عليه تلك المقاطعة بالضرر. وبنت انجلترا تحالفات متوالية ضد فرنسا، وفي النهاية سقط نابليون في فخ تحالف كان أشبه بالمستنقعات التي كانت تعيق تقدم قواته في حملته العسكرية الفاشلة ضد روسيا. فبينما كانت موسكو تحترق، كان الروس يفوقونه في العدد والتخطيط، في الوقت الذي قضى فيه مرض التيفوس على ثلث قواته تقريبا.
وفي أثناء تقهقر قواته، فقد هاجمه أعداؤه بضراوة، ومع ذلك، تمكن مهندسوه من ابتكار وسيلة هرب مذهلة، فقاموا بصنع جسور مرنة على نهر بيريزينا القارس البرودة، واختبأوا من عيون الجيش الروسي المتقدم. لكن حتى ذلك لم يمنع الهزيمة المحتومة، وذاق نابليون طعم الهزيمة في (ليبزغ)، في نفس الوقت دخل فيه (ولينغتون) الى (فرنسا)، وساند (تاليراند) الماكر عودة ملوك أسرة بوربون، وتم إجبار نابليون على الذهاب الى المنفى في جزيرة ألبا. ورغم أنه استعاد باريس في انقلاب آخر، فان هزيمته النهائية في (واترلو)، كما ألمح (روبرتس)، كانت مأسوية وغريبة للغاية، إذ جاءت نتيجة أخطاء بسيطة. وخلال نفيه الثاني، الى جزيرة (سانت هيلانة)، مات (نابليون) بسرطان المعدة في عام 1821، في سن الحادية والخمسين، ليقع أخيرا ضحية قدر لم يتمكن حتى من السيطرة عليه.
( 1 ) دكتور أندرو روبرتس: مؤرخ
بريطاني، ومذيع ومؤلف حققت كتبه أفضل المبيعات، واعتبرته جريدة الإيكونوميست «أفضل مؤرخ عسكري بريطاني» عندما فاز كتابه «عاصفة الحرب» بجائزة التاريخ العسكري للجيش البريطاني.
( 2 ) يقوم دانكان كيلي بتدريس مادة الفكر السياسي بجامعة كامبردج