فاصلة / الرسائل المفترضة... بين الرجل والمرأة

| فهد الهندال |


في عالم الافتراض والاختباء خلف المسافة و سرعة الزمن الموحش وترهل العمر الماضي، لا يزال الكثير من الأسرار الأدبية مخبأة في صناديق الحياة، أو في صدور أصحابها، تنتظر من يميط لثام الصمت عبر فضيحة النشر، فلا تبقي بعده سرا بعدما أضحى خبرا.
سابقا، قرأنا رسائل بين كثير من الأدباء، وإن كانت بالأصل رسائل شخصية، ولكن بعد نشرها لم تعد كذلك، حيث باتت ملك القراء في كل مكان ومختلف الثقافات. أذكر مرة في احد المنتديات ناقشنا رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان، وهل يحق للسمان أن تنشرها بعد وفاته، وهي رسائل خاصة؟
خصوصا أن الكنفاني كان مولعا بها جدا، لدرجة كان يراها الحياة مقابل الموت/ الفقد. وهو ما يعبر عن حالة الوجد التي عاشها حيالها وهي مستمعة/ مستمتعة بهذا الشقاء، فيقول:
«لا تكتبي لي جوابا...لا تكترثي ، لا تقولي شيئا. إنني أعود إليك مثلما يعود اليتيم إلى ملجئه الوحيد، و سأظل أعود: أعطيكِ رأسي المبتل لتجففيه بعد أن اختار الشقي أن يسير تحت المزاريب».
سبق هذه الرسائل، ما كانت بين مي زيادة و جبران خليل جبران، وهما لم يلتقيا أبدا، فاختصرا المسافة الشاسعة بينهما بالرسائل، التي عبر فيها الاثنان عن مقدار الآخر لديه، كما جاء في إحدى رسائلها- مي- إليه وقد عبرت بالدهشة عما بينهما:
«ما معنى هذا الذي أكتبه؟ إني لا أعرف ماذا أعني به، ولكني أعرف أنك محبوبي، وأني أخاف الحب. أقول هذا مع علمي إن القليل من الحب الكثير. الجفاف والقحط واللاشيء بالحب خير من النزر اليسير. كيف أجسر على الإفضاء إليك بهذا. وكيف أفرط فيه؟ لا أدري.الحمد لله أني أكتبه على الورق ولا أتلفظ به لأنك لو كانت الآن حاضراً بالجسد لهربت خجلاً بعد هذا الكلام، ولاختفيت زمناً طويلاً، فما أدعك تراني إلا بعد أن تنسى».
بعد هذه المقدمة الواجبة لنموذجي رسائل بين رجل وامرأة من معشر الأدباء والتي أضحت أدبا وفنا قائما بعد نشرها، أقف هنا أمام رسائل مفترضة أخرى خارج عالمنا العربي، حيث الثقافة مختلفة واحساس آخر باللغة، وأعني كتاب الكاتبة العمانية ليلى البلوشي (رسائل حب مفترضة بين هنري ميللروأناييس نن) الصادر عن مؤسسة الانتشار العربي 2014. لأقف عند العنوان حيث وصف الرسائل بالمفترضة/ المتخيلة من قبل الكاتبة عن اثنين عاشا علاقة حب معروفة وشهيرة، فميللر الروائي الأميركي و نن كاتبة القصص القصيرة، لابد وأن تكون علاقتهما كاحدى قصصهم المثيرة والمكتنزة بكل التفاصيل غير السرية بعدما انتشرت بين العموم. إلا أن البلوشي روت لنا رسائل أخرى مفترضة بين الاثنين قالت عنها في تصدير الكتاب:
«هذه الرسائل من قلب وفكر»... ليلى، أما الكاتبان الشهيران هنري ميللر و أناييس نن فهما مجرد افتراض...».
كذلك في الافتراضات الأولى ، عندما أشارت إلى أن الرسائل في هذا الكتاب ليست موجهة من ميللر إلى أناييس وإنما إلى الآخرين، لترد بدورها أناييس أنه ليست لميللر . وأن التقوى هي خير ما يمنحه/ يمتحنه الحب عند الإنسان. وهذا هو المغاير عن الحياة المعروفة عن ميللر ونن. فجاءت الرسائل المفترضة مبنية على وعي كتابي كبير واقتباسات وفقت فيها الكاتبة في ربطها ببعضها البعض كافتراض من الزمن المعاصر، بحسب الفكرة التي تدور بين الاثنين. لنجد بين الرسائل كلاً من: موديلياني/ google / بورخيس/ سلفادرو دالي/ كافكا / سارتر/ سيمون ديفوار/ ليدي غاغا / موراكامي/ باموق وغيرهم، كذلك الأفلام والموسيقى ونجوم الفن، وكل ما تعلق بالحياة التي نتخيلها في عالمنا، وفي حديث رجل وامرأة، شكلا عالمهما الخاص بهما.
جاءت الرسائل على قدر هواجس الكتابة عن الأمس واليوم، والغد الذي لا يُطمئن جانبه، لتكون الموهبة درعها الحصين ضد غدر الزمن، إلى جانب القضايا التي يحيى الإنسان لأجلها، حتى لو أنه فضل المشاهدة عن بعد: «دور المراقب يريحنا، لأنه متوافق مع عزلتنا رغم أن سلوك المراقبة يلغي العزلة في ذاتها!».
لأقف عند الحرية لدى المرأة بمفهوم ليلى عن أناييس نن: «المرأة الحقيقية... تلك التي تشعر الرجل بالحرية في مساقها الصحيح...الحرية الحقة لا المنفلتة!».
وهو ما أجده مقابل مفهوم الرجل/ غسان إلى غادة/ المرأة:
«المرأة توجد مرة واحدة في عمر الرجل، وكذلك الرجل في عمر المرأة، وعدا ذلك ليس إلا محاولات التعويض».
أخيرا...انطلقت ليلى البلوشي في كتابة هذه الرسائل المفترضة بين عاشقين شهيرين، من حب أسمى ووحيد وآمن، يكون لوحده خالدا بين نظرائه، إذا ما انضوى تحت مفهوم الأبوة تجاه الآخر بمعناها الإنساني الدافئ الإيثاري، وكأن العاشق طفل صغير بين يدي معشوقه ، بعيدا عن الوصاية والسلطوية.
والعاقبة لمن يعقل ويتدبر.
* كاتب وناقد كويتي
@bo_salem72
سابقا، قرأنا رسائل بين كثير من الأدباء، وإن كانت بالأصل رسائل شخصية، ولكن بعد نشرها لم تعد كذلك، حيث باتت ملك القراء في كل مكان ومختلف الثقافات. أذكر مرة في احد المنتديات ناقشنا رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان، وهل يحق للسمان أن تنشرها بعد وفاته، وهي رسائل خاصة؟
خصوصا أن الكنفاني كان مولعا بها جدا، لدرجة كان يراها الحياة مقابل الموت/ الفقد. وهو ما يعبر عن حالة الوجد التي عاشها حيالها وهي مستمعة/ مستمتعة بهذا الشقاء، فيقول:
«لا تكتبي لي جوابا...لا تكترثي ، لا تقولي شيئا. إنني أعود إليك مثلما يعود اليتيم إلى ملجئه الوحيد، و سأظل أعود: أعطيكِ رأسي المبتل لتجففيه بعد أن اختار الشقي أن يسير تحت المزاريب».
سبق هذه الرسائل، ما كانت بين مي زيادة و جبران خليل جبران، وهما لم يلتقيا أبدا، فاختصرا المسافة الشاسعة بينهما بالرسائل، التي عبر فيها الاثنان عن مقدار الآخر لديه، كما جاء في إحدى رسائلها- مي- إليه وقد عبرت بالدهشة عما بينهما:
«ما معنى هذا الذي أكتبه؟ إني لا أعرف ماذا أعني به، ولكني أعرف أنك محبوبي، وأني أخاف الحب. أقول هذا مع علمي إن القليل من الحب الكثير. الجفاف والقحط واللاشيء بالحب خير من النزر اليسير. كيف أجسر على الإفضاء إليك بهذا. وكيف أفرط فيه؟ لا أدري.الحمد لله أني أكتبه على الورق ولا أتلفظ به لأنك لو كانت الآن حاضراً بالجسد لهربت خجلاً بعد هذا الكلام، ولاختفيت زمناً طويلاً، فما أدعك تراني إلا بعد أن تنسى».
بعد هذه المقدمة الواجبة لنموذجي رسائل بين رجل وامرأة من معشر الأدباء والتي أضحت أدبا وفنا قائما بعد نشرها، أقف هنا أمام رسائل مفترضة أخرى خارج عالمنا العربي، حيث الثقافة مختلفة واحساس آخر باللغة، وأعني كتاب الكاتبة العمانية ليلى البلوشي (رسائل حب مفترضة بين هنري ميللروأناييس نن) الصادر عن مؤسسة الانتشار العربي 2014. لأقف عند العنوان حيث وصف الرسائل بالمفترضة/ المتخيلة من قبل الكاتبة عن اثنين عاشا علاقة حب معروفة وشهيرة، فميللر الروائي الأميركي و نن كاتبة القصص القصيرة، لابد وأن تكون علاقتهما كاحدى قصصهم المثيرة والمكتنزة بكل التفاصيل غير السرية بعدما انتشرت بين العموم. إلا أن البلوشي روت لنا رسائل أخرى مفترضة بين الاثنين قالت عنها في تصدير الكتاب:
«هذه الرسائل من قلب وفكر»... ليلى، أما الكاتبان الشهيران هنري ميللر و أناييس نن فهما مجرد افتراض...».
كذلك في الافتراضات الأولى ، عندما أشارت إلى أن الرسائل في هذا الكتاب ليست موجهة من ميللر إلى أناييس وإنما إلى الآخرين، لترد بدورها أناييس أنه ليست لميللر . وأن التقوى هي خير ما يمنحه/ يمتحنه الحب عند الإنسان. وهذا هو المغاير عن الحياة المعروفة عن ميللر ونن. فجاءت الرسائل المفترضة مبنية على وعي كتابي كبير واقتباسات وفقت فيها الكاتبة في ربطها ببعضها البعض كافتراض من الزمن المعاصر، بحسب الفكرة التي تدور بين الاثنين. لنجد بين الرسائل كلاً من: موديلياني/ google / بورخيس/ سلفادرو دالي/ كافكا / سارتر/ سيمون ديفوار/ ليدي غاغا / موراكامي/ باموق وغيرهم، كذلك الأفلام والموسيقى ونجوم الفن، وكل ما تعلق بالحياة التي نتخيلها في عالمنا، وفي حديث رجل وامرأة، شكلا عالمهما الخاص بهما.
جاءت الرسائل على قدر هواجس الكتابة عن الأمس واليوم، والغد الذي لا يُطمئن جانبه، لتكون الموهبة درعها الحصين ضد غدر الزمن، إلى جانب القضايا التي يحيى الإنسان لأجلها، حتى لو أنه فضل المشاهدة عن بعد: «دور المراقب يريحنا، لأنه متوافق مع عزلتنا رغم أن سلوك المراقبة يلغي العزلة في ذاتها!».
لأقف عند الحرية لدى المرأة بمفهوم ليلى عن أناييس نن: «المرأة الحقيقية... تلك التي تشعر الرجل بالحرية في مساقها الصحيح...الحرية الحقة لا المنفلتة!».
وهو ما أجده مقابل مفهوم الرجل/ غسان إلى غادة/ المرأة:
«المرأة توجد مرة واحدة في عمر الرجل، وكذلك الرجل في عمر المرأة، وعدا ذلك ليس إلا محاولات التعويض».
أخيرا...انطلقت ليلى البلوشي في كتابة هذه الرسائل المفترضة بين عاشقين شهيرين، من حب أسمى ووحيد وآمن، يكون لوحده خالدا بين نظرائه، إذا ما انضوى تحت مفهوم الأبوة تجاه الآخر بمعناها الإنساني الدافئ الإيثاري، وكأن العاشق طفل صغير بين يدي معشوقه ، بعيدا عن الوصاية والسلطوية.
والعاقبة لمن يعقل ويتدبر.
* كاتب وناقد كويتي
@bo_salem72