رفع الدعم ... وآثاره

تصغير
تكبير
رفع الدعم الذي يجري الحديث عنه سينتج واقعاً جديدًا من مشهدين الأول يمثل الواقع الجديد الذي هو حقيقة لا يمكن إنكارها أو التهرب منها، بأن رفع أسعار السلع والخدمات الاستراتيجية سيحيل حياة المواطن إلى مساحة أكثر ضيقا فوق ما يعيشه من معاناةٍ يوميّا، أما المشهد الثاني دعاوى نسمع من يروجها (جهلاً أو تدليساً) بأن رفع الدعم سيكون له التأثير الإيجابي على الموازنة وأن ذلك سيكون المنقذ للاقتصاد والمخرج الرئيس للأزمة، وهذا كلام إنشائي ليس له علاقة بالواقع الكويتي ولا يمثل حقيقة علمية

إذا كان الدعم الموجه لعدد من السلع والخدمات غير مهم ويجب رفعه فلماذا وضع أساساً؟


الدعم المقصود هو الموجه الى البنزين، الكيروسين، الخبز، والكهرباء، والماء حسب التفسير الحكومي الشائع لمصطلح الدعم الذي لا يتفق مع تفسير الكثيرين، لكن المهم كما سنوضح لاحقا ... ليس فقط إلغاء الدعم بل أين ستتجه الموارد التي سيتم توفيرها نتيجة للقرار المرتقب؟

هل ستقوم الحكومة بتخفيض رسوم التعليم العام والعالي؟، هل ستقوم بتوفير الأدوات الدراسية والتعليمية اللازمة للتلاميذ والطلاب؟، هل ستنخفض التكاليف الخاصة بالإعاشة؟، هل ستنخفض أسعار الأدوية والعلاج؟، هل سيزداد الإنفاق التنموي على الزراعة (بحسب ما يمكن أن يزرع في مُناخنا) والصناعة والبنيات التحتية؟ ما هي مكاسب القطاع الخاص ... هل سترتفع قدرته على الإنتاج والتصدير؟

هناك اختلاف حول المصطلح والفهم الخاص (بالدعم) بين الحكومة ومجموعة كبيرة من الناس بمن فيهم اقتصاديون وباحثون في الشأن العام، لذلك لابد لكل منهم أن يحدد فهمه لما يسمي (بالدعم)، قبل الحديث عن آثاره.

حسب فهمنا المبني على النظريات الاقتصادية المفسرة للسياسات الاقتصادية ومنها (نظرية السلع والخدمات الاجتماعية)، فإن تخصيص السلع والخدمات العامة يخضع لشيئين: الأول الإنتاج العام والثاني التوفير العام.

في ما يتعلق بالأول فمن الممكن ان تقوم الدولة بإنتاج بعض السلع والخدمات العامة أو الخاصة وبيعها بالأسعار التي تحددها وفي هذه الحالة تعمل الدولة بآلية للتسعير تراعي المصلحة العامة أو تحقيق أرباح وفقا لآلية العرض والطلب. ففي الكويت تقوم الدولة بإنتاج البترول (حسب حصتها من جملة الاستثمارات في هذا القطاع الذي يشتمل على مكون أجنبي مهم) والكهرباء كما تنتج بعض المصانع الحكومية كميات من السكر على سبيل المثال. الإنتاج الخاص بالدولة من هذه السلع يتم تمويله عبر الموازنة العامة، أي من المال العام وبالتالي فإن طرحه بأسعار أقل من أسعار السوق لا يمكن أن يسمى دعما، إلا في حال أن السلعة هي عبارة عن سلعة خاصة لا يلحق استبعاد فئات واسعة من جمهور المستهلكين منها أي ضرر اجتماعي.

هذه المسألة تنطبق على سلعة السكر ولا يمكن أن تنطبق على سلعة البترول وخدمات الكهرباء (التي تعتبر حقاً وليست سلعة عادية) نسبة لان الأخيرتين تؤثران بشكل كبير على مستويات الأسعار للسلع والخدمات الضرورية كما تؤثران على معدلات التضخم وتكاليف الإنتاج وبالتالي فإن رفع أسعارهما إلى مستويات كبيرة سيؤدي إلى خسائر اقتصادية واجتماعية لا يمكن حساب تكلفتها، خاصة في ظروف الأزمات الاقتصادية الحادة مثل التي يمر بها العالم.

فسيؤدي أي رفع مصطنع في أسعار مثل هذه السلع والخدمات إلى تقليص القوة الشرائية للدخول وفي الوقت نفسه يقلل من مصادر دخل عناصر الإنتاج الاسمية والحقيقية، إما بسبب نقص فرص العمل والاستثمار أو لتقلص مصادر كسب الدخل الشخصي، إضافة لانخفاض القوة الشرائية للدينار الكويتي.

أما إذا تحدثنا عن سلعة السكر فلا يمكن لشخص ما أن يصف أسعارها في الكويت بالمدعومة إلا افتراء وكذبا فهذه السلعة مرتفعة السعر بالمستوى الإقليمي والدولي ومن الأدلة على ذلك أن السكر يباع بسعر أقل في البحرين من الذي يباع به في الكويت أما في مصر فلم تقترب أسعار السكر وكذلك تعرفة الكهرباء والمياه وأسعار الغاز والوقود من مثيلتها الكويتية رغم كل ما يشهده المسرح المصري من تحولات.

الجانب الثاني المتعلق بالتوفير العام يعني أن القطاع الخاص هو الذي يقوم بالإنتاج وان الدولة تشتري السلعة أو الخدمة من مواردها (التي هي موارد عامة يتم تخصيصها عبر الموازنة العامة للدولة) ومن ثم تقوم ببيعها للمواطنين بأسعار مخفضة (أي مدعومة) وهذه الحالة تنطبق بكل صدق وموضوعية على دقيق القمح المستخدم في صناعة الخبز هذه السلعة تقوم الحكومة بدعم اسعارها من المطاحن الخاصة أو تستوردها من الخارج وتقوم بتوفيرها بسعر أقل من سعر السوق في سبيل منع السعر من الارتفاع فوق مستوى معين، في هذه الحالة يمكن أن نتفق مع الحكومة بأن هناك دعما لأسعار رغيف الخبز. أما إذا تحدثنا عن بدائل الخبز مثل الذرة (التي تصنع منها العصائد) فهي غالبا ما تروح ضحية لتذبذب الأسعار.

لكن إذا اعتبرنا أن الصحة والتعليم من أكثر الخدمات العامة التي تحظى بالدعم على النطاق العالمي فهل يمكن أن نقول انهما مدعومتان في الكويت؟

مرة أخرى لا نتحدث عن المستشفيات والمدارس الحكومية الممولة من الخزينة العامة، والتي تنعدم فيها الكثير من المتطلبات والمقومات، وإنما عن أشياء أخرى مثل الأدوية ونوعية الخدمات الصحية الضرورية التي لا تتوافر بالمستشفيات الحكومية مثل إجراء بعض التحاليل والفحوصات وأنواع من التشخيص الطبي، إضافة للأدوات المدرسية والمستلزمات الدراسية والتعليمية بالتعليم العام وتلك الخاصة بالتعليم العالي. الحقيقة أن تكاليف العلاج والتعليم في الكويت مرتفعة جدا في بلد يعاني من قلة عدد المواطنين وانتشار بعض الأمراض فيه كالسكري والضغط وأمراض القلب بسبب سوء العادات الغذائية، هذا هو الواقع ما يجعل الحديث عن الدعم أسطورة.

هناك معلومة مهمة أخرى ضرورية لتحديد مفهوم الدعم هي أنه ولكي يكون هناك دعم، فلابد من إيجاد مصدر دخل بخلاف النفط يستطيع أن يغطي تكاليف هذا الدعم كإلزام الشركات بضرائب تفرض عليها. يعني ذلك ابتداء أن الدعم القائم الممول من الخزينة العامة يتم على أساس ما توفره الإيرادات الضريبية بشكل أساسي، إضافة لكمية لا حصر لها من رسوم الخدمات على مختلف مستويات الحكم، ماذا يحدث إذن في حال رفع الدعم بشأن إيرادات الضرائب والرسوم التي سيتم توفيرها؟ إلى أين ستذهب؟ وكيف سيتم توظيفها؟ وما المردود الاقتصادي والاجتماعي الناتج عنها؟

قبل ان تتوافر إجابة عن هذه الأسئلة ومن غير تفسير واضح للجدوى الاقتصادية والاجتماعية للإجراء المتوقع، ومن غير نتائج ايجابية خاصة على المستوى الاجتماعي، فإن ما يسمى برفع الدعم الذي تنوي الحكومة القيام به سيكون جريمة بكل معنى الكلمة ... فما يسمى برفع الدعم هو عبارة عن زيادة في الضرائب غير المباشرة المفروضة على السلع والخدمات المعنية بالقرار، يعني ذلك وبشكل لا لبس فيه أن هذا القرار سيؤثر على حوافز الإنتاج والعمل وستكون لديه آثار اقتصادية مضرة على العاملين، مع كل ما يشتمل عليه من دلالات اقتصادية. هل تم حساب تلك الأضرار؟

من المعروف أيضا أن الدولة وقد تأثرت بشكل واضح بالأزمة المالية العالمية التي ضربت أغلب القطاعات منذ عام 2008 وما زالت الدول والحكومات لم تتعافَ منها، وبهذا فمن الأفضل للحكومة أن تعترف صراحة بهذا الوضع وبسوء السياسات والتقدير وتدبير الأمور التي اتخذتها في مواجهة الآثار المترتبة عن تلك الأزمة، والتي أدت له وأن تعترف بأن ما ستقوم به هو زيادة للضرائب والرسوم المفروضة على المواطنين وأنهم سوف يتحملون مزيدا من الضغط والمعاناة، بدلا عن المزايدة بدعم غير موجود يراد رفعه. على الحكومة أن تعترف بأنها ستلجأ إلى أسوأ الخيارات المتاحة لها بعد أن سدت أمامها مصادر الدخل وجفت قنوات الاستثمار وأن ما لم يعد مقبولا في الظروف الطبيعية من الممكن أن يكون مجازا في وقت الأزمات.

إذا لم توافق الحكومة على ذلك - وهذا هو المرجح خاصةً في ظل وجود مجلس أمّة لا يكترث كثيراً لهموم المواطنين - فعليها (الحكومة) أن تجري استفتاءً نزيها حول شعبية القرار الذي يعرف برفع الدعم لتدرك مدى قبول الشعب لهذا القرار الذي أصبح اتخاذه مسألة وقت فقط ، في كل الأحوال فإن ما ستخرج به الحكومة سواء من خلال وزارة المالية أو أي هيئة حكومية أخرى في تبريرها للقرار المرتقب دون الاعتراف صراحة بالأسباب التي أدت له ودون الإشارة للأضرار المتوقعة منه أي تبرير بجدوى اقتصادية أو اجتماعية مزعومة لمثل هذا القرار، ستكون من قبيل الخرافات والأساطير، وهذا نهج أصبح من الأشياء المعهودة في الكويت. إذا لم يكن الأمر كذلك فاسألوا (البرلمان) الإيراني الذي رفض اقتراح الحكومة برفع الدعم (الكبير) عن السلع والخدمات الرئيسية في البلاد- بعد العقوبات الاقتصادية - على الرغم من أن الوضع الإيراني لا يحتمل مثل ذلك العبء بشكل أفضل بكثير مقارنة بالكويت التي حباها الله بالكثير من الثروات.

إن من الجيد أن تسعى الحكومة لضبط عملية الدعم وأن تبحث عن الشرائح المستفيدة منه بدقة فتغلق الصنبور على القادرين مقابل منحه إلى المستحقين لكن في الوقت نفسه يحق لنا أن نخشى من النتائج المترتبة على ذلك أي نكتشف في النهاية أن غير القادرين هم الذين يدفعون الثمن فكيف يمكن أن يحدث ذلك؟

في خبرة السوق منذ أن رفعت الدولة يدها عن الأسعار وجعلتها تخضع للعرض والطلب أصبح التجار هم المتحكمون في كل شيء، يحددون الأسعار وفقا لأجندة أرباحهم دون الالتفات لطبيعة دخل الأسرة الكويتية، وطبقا لذلك نرى السلعة لها سعر في يوم وفي اليوم التالي سعر آخر، وهكذا شوى الغلاء جيوب غير القادرين والأسر المتوسطة ولأن الدولة مازالت غائبة في هذا المجال فمن المتوقع أن يلجأ المتحكمون في السوق إلى تعويض فاتورة خسارتهم الناتجة من رفع الدعم عنهم، بموجة غلاء جديدة عبر تحكمهم في المقدرات الاقتصادية الأخرى.

ليس معنى ذلك هو مطالبة الحكومة ألا تبحث عن وسيلة تضمن بها وصول الدعم إلى مستحقيه ، لكن تحقيق ذلك يجب أن يكون مرهونا بآلية قوية تضمن ضبط الأسعار.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي