نكتب عن الإنسانية المهدرة ومآسي ضحايا الحروب ونحن في ترف حياتنا. نستمتع بالأمن والأمان بينما يحيط بهم وينهشهم الفقر والألم والحرمان. نحاول قدر المستطاع الاقتراب من عالمهم المشوه وتلمس أوجاعهم، لكننا نبقى خارج دائرة حرقة واشتعال الألم. أما إن اقتربنا بحق، فالحكايات نار صارخة، تمسك بنا بثيابنا بمشاعرنا وضمائرنا، لتستصرخنا وتهيب بنا، لنكتب ونفعل أي شيء نستطيعه للتخفيف عنهم.
مناسبة الحديث، زيارتي اخيرا لجمعية المرأة للمودة والرحمة في جبل لبنان، عاليه. والجلوس مع يتامى وضحايا حرب، فرقتهم عن أهلهم، وشردتهم عن أوطانهم، أطفال، شاهدوا أهلهم يموتون أمامهم، أو ينتزعون منهم عبر الحدود، مآسٍ كثيرة، تعجز عنها الصور والكلمات.
التقيت هناك ببيان، الطفلة السورية التي تشوه جمال وجهها ببقايا قذيفة نزلت قرب منزلها، حكت لي بحرقة كيف حين وصلت للحدود، ضاع والداها عنها، واضطرت للهرب دونهما. وغلبتها دموعها وهي تقول إنها منذ أربعة أشهر بلا أهل وبلا مدرسة، تتكدس مع أكثر من عشرين شخصاً مثلها في غرفة ضيقة بانتظار الطعام والملابس والأمان.
أما معاذ، فكلمني عن أمه التي تناثرت أشلاؤها حوله بينما كانا جالسين في المنزل، وصار يجمع يدها وساقها وذراعها، وحين شرع بالهروب، لم يقو ترك يدها فأخذها معه ملفوفة بقماش. وهمس مذهولا، ربما عادت، فيعطيها يدها التي فقدتها. ودهشت لفرط هدوئه وهو يسرد القصة، بينما الانهيار يحاصرني والدموع تسترسل رغما عني.
تأملت حجم الأهوال التي شهدها هذا الطفل الصغير معاذ، الذي لم يتجاوز عمره الخمس سنوات، وتألمت لبراءته التي انتزعت وسرقت منه قسرا، لحرب لايعرف القصد والهدف منها. ثم أكمل شارحا لي كيف تحللت اليد ولم يبق الا اصبع واحد، لا يزال يحتفظ به من يد أمه، ملفوفا بقطعة قماش. وسألني، هل تودين رؤيته؟ فهززت رأسي بلا. وكدت أتساقط من هلع القصة وألمها. ورجاني ألاأخبر أحدا ممن يرعونه حتى لايأخذون اصبع أمه منه. قبلته وأعطيته المقسوم. وقبل وداعه، التفت وسألني: هل ستأتين بأمٍ لي؟ ولم أقو على الاجابة. تحجر فمي، وعلقت الكلمات في شباك الصدمة والذهول.
حين خرجت للشارع، بدا العالم صغيرا حقيرا، وبكيت، طوال الطريق عائدة لحياتي المترفة.
twitter@aliashuaib