قوس قزح / الأولة في الغرام

د. أيمن بكر


يحكى أن الشاعر الكبير بيرم التونسي كان له ابن مريض سافر لإجراء جراحة في فرنسا، ثم إنه توفي بسبب فشل الجراحة، فاحتجب بيرم عن الناس مكتئبا لفترة لا يكلم أحدا ولا يلتقي بأحد. فلما قام شيخ الملحنين زكريا أحمد بزيارته للاطمئنان عليه ومحاولة إخراجه من أوجاعه وجد أوراقا كتب عليها بيرم قصيدة الأولة في الغرام بتأثير حادثة موت ابنه.
تتعدد الروايات عند هذه النقطة: فهناك من يقول إن الشيخ زكريا اتفق لفوره مع بيرم على تلحين الأغنية، وهناك رواية أخرى عجيبة تقول إن الشيخ زكريا أخذ القصيدة خلسة حين أحس برفض بيرم لفكرة تلحينها، وأنه اتفق مع أم كلثوم على أن تقوم بغنائها، وكتما الخبر حتى كانت الحفلة الوحيدة التي يذكر التاريخ أن أم كلثوم أدت فيها «الأولة في الغرام». تكتمل القصة بأن الشيخ زكريا ذهب مصطحبا بيرم لحضور حفلة «الست» دون أن يكون لدى بيرم أية فكرة عما ستغنيه في تلك الليلة. تخيل معي أيها القارئ الكريم لو أن هذه الرواية صحيحة، وأن بيرم التونسي دخل واتخذ مقعده إلى جوار زكريا أحمد ثم ظهرت أم كلثوم بهيأتها وهيبتها المعروفين، وبعد مقدمة موسيقية قصيرة جدا كعادة ألحان الشيخ زكريا، انطلقت أم كلثوم بصوتها العميق في غناء:
الأولة في الغرام والحب شبكوني
والتانيه بالامتثال والصبر أمروني
والتالته من غير ميعاد راحم (ذهبوا) وسابوني (تركوني)
إنها محاولة اغتيال غير مقصودة لبيرم المفجوع بفقد ولده، لحن مدرك للكلمات بعمق ويؤديها بنغمات رصينة لا تتعجل، بل تعيد وتزيد خاصة مع طبيعة القصيدة التي يتكرر فيها كل مقطع من مقاطع المقدمة عدة مرات، مع زيادة كلمة أو كلمتين في كل مرة بصورة تزيد معها حدة الشعور هكذا:
الأولة في الغرام والحب شبكوني بنظرة عين
والتانيه بالامتثال والصبر أمروني واجيبه منين؟
والتالته من غير ميعاد راحم وسابوني قولوا لي فين؟
الأولة في الغرام والحب شبكوني بنظرة عين زادت لهيبي
والتانيه بالامتثال والصبر أمروني واجيبه منين؟ احتار طبيبي
والتالته من غير ميعاد راحم وسابوني قولوا لي فين سافر حبيبي؟ ثم تنطلق أم كلثوم بصوت كان محتفظا بكامل عافيته، وفي حالة من السلطنة غير المعتادة لتعيد على مسامع بيرم لحظات الفقد القاتلة مغناة بنغمات قادرة على ترجمة المعنى بطريقة الشيخ زكريا التي تحاول أن تحاكي المعنى في حركته فرحا وحزنا، حتى تصل إلى المقطع الذي يقول:
حطيت (وضعت) على القلب إيدي (يدي)
وانا بودع (أودع) وحيدي
وأقول ياعين اسعفيني
وابكي وبالدمع جودي
هنا تقف أم كلثوم بحسها النادر لتعيد هذا المقطع بمقامات مختلفة وبطاقة صوت تمثيلية هائلة كمن أسكرها الحزن الكامن في الكلمات والذي فجره اللحن. تخيلت نفسي مكان بيرم التونسي في هذا المشهد وشعرت أنه من الطبيعي أن يتوقف قلبي من الحسرة والطرب معا. لقد تحولت تجربة الألم العظيمة التي مر بها هذا الشاعر الفذ إلى أنشودة بديعة تدق بلا رحمة على وجعه. ويحكى أن أم كلثوم لم تقدم هذه الأغنية في أي حفل عام بعد ذلك، أي إن ما لدينا هو التسجيل الوحيد المتاح لهذه الأغنية في الحفل الوحيد الذي ضمها. فهل كان ذلك احتراما لألم بيرم؟
بغض النظر عن مدى صدق الرواية السابقة، تبقى حقيقة واحدة وهي أنه في ذاك الزمن كان الشاعر والملحن والمطرب جميعهم يدخل في تجربة وجودية حقيقية يقدم فيها أعمق ما لديه من كلمات أو نغمات أو أداء.
تتعدد الروايات عند هذه النقطة: فهناك من يقول إن الشيخ زكريا اتفق لفوره مع بيرم على تلحين الأغنية، وهناك رواية أخرى عجيبة تقول إن الشيخ زكريا أخذ القصيدة خلسة حين أحس برفض بيرم لفكرة تلحينها، وأنه اتفق مع أم كلثوم على أن تقوم بغنائها، وكتما الخبر حتى كانت الحفلة الوحيدة التي يذكر التاريخ أن أم كلثوم أدت فيها «الأولة في الغرام». تكتمل القصة بأن الشيخ زكريا ذهب مصطحبا بيرم لحضور حفلة «الست» دون أن يكون لدى بيرم أية فكرة عما ستغنيه في تلك الليلة. تخيل معي أيها القارئ الكريم لو أن هذه الرواية صحيحة، وأن بيرم التونسي دخل واتخذ مقعده إلى جوار زكريا أحمد ثم ظهرت أم كلثوم بهيأتها وهيبتها المعروفين، وبعد مقدمة موسيقية قصيرة جدا كعادة ألحان الشيخ زكريا، انطلقت أم كلثوم بصوتها العميق في غناء:
الأولة في الغرام والحب شبكوني
والتانيه بالامتثال والصبر أمروني
والتالته من غير ميعاد راحم (ذهبوا) وسابوني (تركوني)
إنها محاولة اغتيال غير مقصودة لبيرم المفجوع بفقد ولده، لحن مدرك للكلمات بعمق ويؤديها بنغمات رصينة لا تتعجل، بل تعيد وتزيد خاصة مع طبيعة القصيدة التي يتكرر فيها كل مقطع من مقاطع المقدمة عدة مرات، مع زيادة كلمة أو كلمتين في كل مرة بصورة تزيد معها حدة الشعور هكذا:
الأولة في الغرام والحب شبكوني بنظرة عين
والتانيه بالامتثال والصبر أمروني واجيبه منين؟
والتالته من غير ميعاد راحم وسابوني قولوا لي فين؟
الأولة في الغرام والحب شبكوني بنظرة عين زادت لهيبي
والتانيه بالامتثال والصبر أمروني واجيبه منين؟ احتار طبيبي
والتالته من غير ميعاد راحم وسابوني قولوا لي فين سافر حبيبي؟ ثم تنطلق أم كلثوم بصوت كان محتفظا بكامل عافيته، وفي حالة من السلطنة غير المعتادة لتعيد على مسامع بيرم لحظات الفقد القاتلة مغناة بنغمات قادرة على ترجمة المعنى بطريقة الشيخ زكريا التي تحاول أن تحاكي المعنى في حركته فرحا وحزنا، حتى تصل إلى المقطع الذي يقول:
حطيت (وضعت) على القلب إيدي (يدي)
وانا بودع (أودع) وحيدي
وأقول ياعين اسعفيني
وابكي وبالدمع جودي
هنا تقف أم كلثوم بحسها النادر لتعيد هذا المقطع بمقامات مختلفة وبطاقة صوت تمثيلية هائلة كمن أسكرها الحزن الكامن في الكلمات والذي فجره اللحن. تخيلت نفسي مكان بيرم التونسي في هذا المشهد وشعرت أنه من الطبيعي أن يتوقف قلبي من الحسرة والطرب معا. لقد تحولت تجربة الألم العظيمة التي مر بها هذا الشاعر الفذ إلى أنشودة بديعة تدق بلا رحمة على وجعه. ويحكى أن أم كلثوم لم تقدم هذه الأغنية في أي حفل عام بعد ذلك، أي إن ما لدينا هو التسجيل الوحيد المتاح لهذه الأغنية في الحفل الوحيد الذي ضمها. فهل كان ذلك احتراما لألم بيرم؟
بغض النظر عن مدى صدق الرواية السابقة، تبقى حقيقة واحدة وهي أنه في ذاك الزمن كان الشاعر والملحن والمطرب جميعهم يدخل في تجربة وجودية حقيقية يقدم فيها أعمق ما لديه من كلمات أو نغمات أو أداء.