أماكن

الأماكن (3 من 3)

u062cu0645u0627u0644 u0627u0644u063au064au0637u0627u0646u064a
جمال الغيطاني
تصغير
تكبير
... أنشدنا وصفقنا وتحررنا من جميع القيودات، أقبلنا على البحر وعندما بان الموج المنبسط كدت أذوب في اللون الأزرق الشفاف، ألوان الإسكندرية صريحة، واضحة تماما كما تبدو في لوحات وانلي، في ما تلا ذلك بدأ ترحالي ويمكنني القول إنني وقفت على شاطئ المتوسط، البلدان المطلة عليه.

البحر واحد والماء واحد وسطحه واحد، غير أن لكل موضع أحواله وهيبته، أقول عن معاينة، ليس مثل بحر إسكندرية بحر، خصوصا الميناء الشرقي، أو بحري حيث سوق الطباخين وصاحبي فرج الذي أذاقني من الأسماك أعاجيب ولي عنه حديث طويل?.?

- سألنا مدحت، أين البيت؟

* قال كلمة واحدة فقط، «لوران»

لوران، أشرق عندي حال، وضوي شيء لايزال يرسل إليّ ما غمض عليّ حتى الآن، أعرف أنه يخبو، بل إنني أفقد القدرة على المقارنة بين ما عرفته في الواقع المحسوس، وما أستعيده بعد نحو نصف قرن، ربما أكثر، عندما سمعت الاسم بدأ توقي إلى التعرف، إلى معرفة الموضع، سكنت الكينونة وسكنتني، مطلة على البحر من ثلاثة طوابق، كلها خشبية، أعني الشرفات، مطلة على البحر ممتدة، عريضة، غريب أمرها، كأن الأفق يبدأ من عندي، انبثق عندي شيء يحيرني، فضولي لمعرفة الأسماء عظيم، لكنني لم أحاول معرفة الأصل، من أين جاء، تعلقت به.

رغم ضجيج الصّحب وغنائنا الجماعي، فإنني كنت أنسحب إلى الشرفة، أرقب الظهور المفاجئ للغمام، لا أعبأ بالرياح، كل المباني المحيطة خالية، قال مدحت?: ?لا يوجد إلا البوابون الصعايدة، حراس العقارات، غير أن لوران دثرتني، سافرت كثيرا واغتربت بعض الوقت لكن لا لوران فارقتني ولا أنا نأيت عنها، لحقت بالضوء، ذكرتها في أماكن نائية.

وفي الخضم، أستعيد بهجتنا المتدفقة، حميمية الصحبة التي تبددت، لم يعد متبقيا من الشلة إلا اثنان، واحد منهما هو أنا، تسألني الممرضة عن سر دمعي، فأوشك على النطق.

إن قطر المطر في لوران، لمعة ما تبقى على أرض لوران، بدهشة الوقت، المسافة الفاصلة، غير أن لوران تظل ما قبل وما بعد، أما لمعة قطرات المطر فلاتزال، لوران يا ذارفة دمعي، وما أصعب الدمع من الكينونة على الكينونة، لوران، لوران?.?

أم الغلام...

ياه، هل انضم شارع أم الغلام إلى الأماكن التي تبدو مستحيلة رغم أنه في متناولي، لولا خشية المبالغة لقلت إنني أحفظ كل ملليمتر سواء تعلق الأمر بواجهات الحوانيت أو المقاهي أو الدروب المتفرعة، خصوصا مدخل كفر الزغاري، أقطعه منذ أن كنت طفلا.

ربما مع تواكب التحاقي بمدرسة عبدالرحمن كتخدا، التي أتقنت فيها سر الحرف، لا أدري متى استمعت إلى اسم أم الغلام، منذ ذلك الحين وحتى الآن موقن من وجود سيدة تهيمن على المكان، على الطريق المؤدي إلى ضريح مولانا.

إلى مشهد الحبيب الحسين، أم الغلام قديم ذكرها، لا توجد لافتة زرقاء بحروف بيضاء التي خطها أحمد بك داويني زمن الملك فؤاد، لوحاته منحت المدينة بُعدًا خفيّا، لا يمكن تخيل شوارعها من دون هذه اللافتات.

عندما نزلت الإسكندرية وجدت اللافتات الخضراء بحروف بيضاء، فدهشت لذلك، عادة أقطع الطريق قادما من مقر إقامتنا المؤسس، المنزل عليّ، أول ما أبصرت منه الدنيا، أجيء من الناحية المعاكسة، من ميدان الحسين، يختلف المشهد، كذلك السعي، منذ مفارقتي لدرب الطبلاوي، منزلنا أتجه يمنة، بداية قصر الشوق، عم رضوان السباك، مدخل حارة موسى، مدرسة عبد الرحمن كتخدا، عند الغرفة المجاورة سلمني أبي إلى إبراهيم أفندي، على جانبيّ جبهته وشم من عصفورين.

كان القوم في ما تلا ذلك إذا تنابذوا فيما بينهم يقولون «أصله داقق عصافير?»?، أمام المدرسة خرابة، بقايا عمارة، في الخلفية مبنى يعلوه برج حمام، لكن يخشاه الأطفال لما يتردد عن وجود غولة تختطف الصغار وتأكلهم، أنأى بنفسي عنه، على الناحية الأخرى محل كشري عبدالعاطي، والذي أسس لمذاق هذه الأكلة الشعبية، الرائحة العبقرية خليط من تقلية البصل والصلصة، الأرز وحمص الشام، عبده الكبابجي، رائحة تسري، منه بدأ تفضيلي للكفتة، خصوصا إذا ما غمست بالطحينة.

قرب مدخل كفر الزغاري مقهى أتجنبه صبيّا وألازمه شابّا، يلوح مسجد، عمارة قامت في الستينات، بها محل تصوير سريع «فوتوماتون?»?، منه بقيت صورة نادرة وحيدة مع شقيقي إسماعيل، يمسك كتابا وارتدى غطاء الهنود الحمر، أشهر مسدسا ويلوح عليّ غضبا.

عند اعتقالي استولى الضابط على جميع ما لدينا من صور قليلة، لا توجد لي صورة قبل ذلك، فقط تلك، عند هذه العمارة يبدأ حضور أم الغلام مع أنه قديم.

رحت وجئت أعواما عديدة قبل أن أعرف من القوم، لا أقدر على شخص بعينه، بل أعرف كيف اكتملت التفاصيل، بعد أن احتز شمر بن الجوشن رأس الحسين، طار الرأس من كربلاء، قطع المسافة إلى مصر في أربعين يوما.

استقر في حِجر بائعة فقيرة يجلس ابنها إلى جوارها، جاء جند يزيد يبحثون عن الرأس الشريف، قدمت إليهم رأس ابنها، افتدت رأس الحسين، مكان ما جرى شق في الجدار القديم لا ينفذ منه العطر، لم أمر به إلا ووضعت أصابعي لأحتفظ بالعبق الجميل.

في السنين الأخيرة أحاطه المتشددون بسياج، بدعوى أنه حرام، غير أن أم الغلام باقية، مكان أثير، صحيح، شارع له خصوصية أتصالح على حالي فيه، هذا صحيح، لكنني واثق من وجودها، لها جلسة أمي وحنانها، قدام ما، تغدق عليّ طفلا ثم صبيّا ثم شابّا.

وأخيرا، أخيرا، أرفع بصري عبر النافذة، قطرات الندى والدم تتوالى، أغمض عينيّ، أكاد أشعر بتمليس أم الغلام، تنحني عليّ، تشملني فأرجو منها قبلة الحياة لعل وعسى?.?
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي