خواطر تقرع الأجراس / «أجراس المشرق» الصدئة!
| مصطفى سليمان |
من البرامج التي أحرص على متابعتها في تلفزيون الميادين (أجراس المشرق) الذي يوجّه الآذان إلى سماع قرع أجراس كنائس المشرق، وتسليط الضوء على تاريخ المسيحية في الشرق، ودورها في الحضارة العربية الإسلامية وواقع المسيحيين في زمن الربيع العربي الذي تحول إلى خريف إرهابي داعشي أشد صفرة من (خريف الغضب) لمحمد حسنين هيكل!
هذا الخريف جعل كثيراً من المفكرين ورجال الدين، خصوصا من المسيحيين، يلعنون الفصول الأربعة، ويقرعون أجراس المشرق الكنسية بعصبية وهستيرية، كما قرعها كوازيمودو ؛ بطل رواية (أحدب نوتردام) لفكتور هوغو، حين تعرضت معشوقته إزميرالدا إلى قطع رأسها بالمقصلة.
شاهدت حلقة غاضبة، أجراسها صاخبة، مع (مارنيقوديموس داوُد متّي شرف) رئيس أبرشية الموصل وكردستان للسريان الأرثوذوكس. وعندما يقرع الغضب أجراسه في ميادين العقل يختل إيقاع الطنين، وتصدأ الأجراس؛ فيعلو الضجيج!
وكان مما قاله مارنيقوديموس مُعمِّماً: «اضطهدونا عبر التاريخ، أهانونا، ذبحونا، أبادونا... ونحن لا نعرف القتل والذبح واضهاد الآخرين، ولا نملك سوى هذا القلم، الذي علّمنا به العرب وثقّفناهم، ولست أدري أهمُ فاتحون، أم غزاة؟!...».
غضبٌ مشروعٌ من خريف الإرهاب الداعشي، وغيره، ونحن ضد هذا الجحفل الظلامي الذي ذبح المسلمين من مختلف الطوائف، والعرب، والكرد قبل المسيحيين والأيزيديين. المتطرف هو ضد الآخر، مطلقاً إذا لم يبايع ويخضع ويركع ويسبِّح بكرة وأصيلاً لخليفة العصر، المكفَّن بعباءة التاريخ السوداء.
أمّا أن المسيحيين لم يعرفوا سوى القلم والورقة والتثقيف والتعليم فمسألة فيها نظر. صحيح أن لمسيحيي الشرق دوراً بالغ الأهمية في ترجمة تراث الإغريق بخاصة، إلى السريانية، ثم العربية، وأن لهم دوراً حضارياً هاماً في تأسيس الثقافة والعلوم والمعارف المختلفة... وكانوا يلاقون كل التقدير، بل إن كثيراً منهم كان من أشهر أطباء الخلفاء العباسيين، وتلك ثقة إنسانية وحضارية عظيمة. وهم في النهاية ينتمون إلى دوحة شاملة في هذا الشرق، مهما اختلفت التجليات من آشورية وبابلية وسريانية وكلدانية وكنعانية وفينيقية وعربية. والأساطير، والعقائد الدينية، والمعجم اللغوي... كله يشهد على هذه الحقيقة التاريخية.
نعم (مسيحيو الشرق) لم يعرفوا سوى القلم والورق في ظل الحضارة العربية- الإسلامية، لأنهم تحرروا من ظلم الرومان والفرس، واحتفظوا عبر القرون بعقيدتهم التي يجلِّها الإسلام، ويضع المسيح عليه السلام في مرتبة مقدسة بين الأنبياء. وهذا من بين أسباب دخول كثير من مسيحيي الشرق في الإسلام، أو الاحتفظ بعقيدتهم.
أما ما تمارسه الداعشية الرهيبة من مذابح واضطهادات جماعية فلا يخص المسيحيين وغير العرب فقط، فالأكثرية العربية والمسلمة هم أكبر ضحايا هذا الخريف الأصفر العاتي.
ثم إن الحملات الصليبية الأوروبية غزت المشرق والمغرب وهي تحمل السيف والرمح، وليس القرطاس والقلم، وذبحوا، وأبادوا مَن وقف في طريقهم المقدس! ألم يكن بينهم آكلو لحوم البشر، كآكلي الأكباد اليوم؟ نعم أكلوا لحوم البشر في شمال سورية بعد اجتياح بيزنطة، بل ونهبوا كنائس بيزنطة في غزوهم المقدس وهم يرفعون الصليب شعاراً. ألم يكتبوا إلى البابا بعد احتلال القدس: إن قوائم خيولنا تخوض في برك دماء «الكفار» المسلمين؟!
مارنيقوديموس يعرف حتماً مذابح (الداعشية الصليبية) في المشرق. ثم مَن أوقد مواقد الحرب العالمية الأولى والثانية؟ أليست أوروبا المسيحية؟ ومن ارتكب أفظع المذابح الجماعية بحق سكان أميركا اللاتينية؟ أليسوا هم الإسبان تحت ظل الكنيسة الكاثوليكية المقدسة في عهد إيزابيلّا المتديِّنة؟
وما بين اختلاط صليل السيف والرمح، بصرير القرطاس والقلم... تصدأ جراس المشرق!
*كاتب سوري
هذا الخريف جعل كثيراً من المفكرين ورجال الدين، خصوصا من المسيحيين، يلعنون الفصول الأربعة، ويقرعون أجراس المشرق الكنسية بعصبية وهستيرية، كما قرعها كوازيمودو ؛ بطل رواية (أحدب نوتردام) لفكتور هوغو، حين تعرضت معشوقته إزميرالدا إلى قطع رأسها بالمقصلة.
شاهدت حلقة غاضبة، أجراسها صاخبة، مع (مارنيقوديموس داوُد متّي شرف) رئيس أبرشية الموصل وكردستان للسريان الأرثوذوكس. وعندما يقرع الغضب أجراسه في ميادين العقل يختل إيقاع الطنين، وتصدأ الأجراس؛ فيعلو الضجيج!
وكان مما قاله مارنيقوديموس مُعمِّماً: «اضطهدونا عبر التاريخ، أهانونا، ذبحونا، أبادونا... ونحن لا نعرف القتل والذبح واضهاد الآخرين، ولا نملك سوى هذا القلم، الذي علّمنا به العرب وثقّفناهم، ولست أدري أهمُ فاتحون، أم غزاة؟!...».
غضبٌ مشروعٌ من خريف الإرهاب الداعشي، وغيره، ونحن ضد هذا الجحفل الظلامي الذي ذبح المسلمين من مختلف الطوائف، والعرب، والكرد قبل المسيحيين والأيزيديين. المتطرف هو ضد الآخر، مطلقاً إذا لم يبايع ويخضع ويركع ويسبِّح بكرة وأصيلاً لخليفة العصر، المكفَّن بعباءة التاريخ السوداء.
أمّا أن المسيحيين لم يعرفوا سوى القلم والورقة والتثقيف والتعليم فمسألة فيها نظر. صحيح أن لمسيحيي الشرق دوراً بالغ الأهمية في ترجمة تراث الإغريق بخاصة، إلى السريانية، ثم العربية، وأن لهم دوراً حضارياً هاماً في تأسيس الثقافة والعلوم والمعارف المختلفة... وكانوا يلاقون كل التقدير، بل إن كثيراً منهم كان من أشهر أطباء الخلفاء العباسيين، وتلك ثقة إنسانية وحضارية عظيمة. وهم في النهاية ينتمون إلى دوحة شاملة في هذا الشرق، مهما اختلفت التجليات من آشورية وبابلية وسريانية وكلدانية وكنعانية وفينيقية وعربية. والأساطير، والعقائد الدينية، والمعجم اللغوي... كله يشهد على هذه الحقيقة التاريخية.
نعم (مسيحيو الشرق) لم يعرفوا سوى القلم والورق في ظل الحضارة العربية- الإسلامية، لأنهم تحرروا من ظلم الرومان والفرس، واحتفظوا عبر القرون بعقيدتهم التي يجلِّها الإسلام، ويضع المسيح عليه السلام في مرتبة مقدسة بين الأنبياء. وهذا من بين أسباب دخول كثير من مسيحيي الشرق في الإسلام، أو الاحتفظ بعقيدتهم.
أما ما تمارسه الداعشية الرهيبة من مذابح واضطهادات جماعية فلا يخص المسيحيين وغير العرب فقط، فالأكثرية العربية والمسلمة هم أكبر ضحايا هذا الخريف الأصفر العاتي.
ثم إن الحملات الصليبية الأوروبية غزت المشرق والمغرب وهي تحمل السيف والرمح، وليس القرطاس والقلم، وذبحوا، وأبادوا مَن وقف في طريقهم المقدس! ألم يكن بينهم آكلو لحوم البشر، كآكلي الأكباد اليوم؟ نعم أكلوا لحوم البشر في شمال سورية بعد اجتياح بيزنطة، بل ونهبوا كنائس بيزنطة في غزوهم المقدس وهم يرفعون الصليب شعاراً. ألم يكتبوا إلى البابا بعد احتلال القدس: إن قوائم خيولنا تخوض في برك دماء «الكفار» المسلمين؟!
مارنيقوديموس يعرف حتماً مذابح (الداعشية الصليبية) في المشرق. ثم مَن أوقد مواقد الحرب العالمية الأولى والثانية؟ أليست أوروبا المسيحية؟ ومن ارتكب أفظع المذابح الجماعية بحق سكان أميركا اللاتينية؟ أليسوا هم الإسبان تحت ظل الكنيسة الكاثوليكية المقدسة في عهد إيزابيلّا المتديِّنة؟
وما بين اختلاط صليل السيف والرمح، بصرير القرطاس والقلم... تصدأ جراس المشرق!
*كاتب سوري