نقل عن رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير قوله في وقت سابق من هذا العام:
«إن تهديد الإسلام المتطرف يتنامى، وهو ينتشر على امتداد العالم، ويؤسس مجتمعات وحتى أمما. إنه يقوض إمكانية التعايش السلمي في عصر تسوده العولمة، ويبدو أننا في وجه هذا التهديد مترددون بحذر في الاعتراف به ولا نملك حولا ولا قوة في الرد عليه بفعالية.
إن الأحداث المأسوية الأخيرة في العراق، حيث تقوم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) بشن حملة عسكرية ضد حكومة رئيس الوزراء نوري المالكي، لابد أنها تبدو منسجمة مع هواجس بلير، خصوصا عندما قال «إن معارك هذا القرن يمكن أن تخاض بسهولة حول مسائل الاختلاف الثقافي أو الديني»، لكن إلى أي مدى تعكس ادعاءات بلير تجربة التحولات السياسية في أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؟
إن صعود الإسلام السياسي إلى الواجهة يطرح أسئلة مهمة على كل من: شعوب الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وصانعي السياسات في الغرب، فمنذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر كان اندفاع السياسة الخارجية والأمنية الغربية باتجاه هذه المنطقة يهدف إلى احتواء الأشكال المتطرفة من الإسلام. وكان ذلك يعني غالبا التودد إلى الأنظمة الاستبدادية ما دامت ملتزمة بالعلمانية، وذلك لأنها كانت تعتبر ذات مكانة أعلى من مكانة بدائلها الثيوقراطية، وعندما قام الجيش المصري بإسقاط الرئيس محمد مرسي في أوائل يوليو 2013 كان هنالك شعور بالارتياح في كثير من أوساط واشنطن، ومن هؤلاء على سبيل المثال: بيل كريستول، المحلل السياسي الأميركي المنتمي إلى المحافظين الجدد، الذي عبر عما حدث على النحو الآتي:
أعتقد بأنهم يفضلون حكم الجيش على حكم الإخوان المسلمين. وأنا أعتقد بأن عددا هائلا من شعوب المنطقة يفضل ذلك أيضا، ويضاف إليهم الكثير من الحكومات العربية، وليس من الواضح في نظري لماذا يجب علينا ألا نفضل، نحن الأميركيين، حكم الجيش.
ومن وجهات النظر السائدة بشأن التطور السياسي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ما يرى بأن انخراط الدين في السياسة ليس إلا من أعراض التخلف، وأنه من الأمور التي يتوقع انحسارها عند ارتفاع مستوى الازدهار والحداثة والديموقراطية في البلدان المعنية، كما أن وجهات النظر هذه تجمع بين التدين وبين مجموعة من المعتقدات الثيوقراطية المتعلقة بالكيفية التي يجب أن يحكم المجتمع على أساسها، لذلك فمن الطبيعي أن تصبح صدارة الأحزاب الدينية المصرحة بتدينها في العالم العربي أمرا يدعو ويبعث على القلق.
إن هذه النظرة للسياسة الدينية ليست مخطئة بالكامل، فالهويات الدينية ذات أهمية لدى الناس، وغالبا ما تمتلك الأديان، ومنها الإسلام، تأثيرات معيارية حول كيف يجدر بالمجتمع أن يؤدي عمله، وإذا أخذنا بالحسبان أن المعتقدات الدينية يبدو أنها تقع في صلب الهوية الثقافية للمجتمعات العربية، فلن يكون من المستبعد كليا بعد ذلك أن يكون صعود السياسيين الإسلاميين في مرحلة ما بعد سقوط الأنظمة الاستبدادية العلمانية في المنطقة مجرد استجابة بسيطة للمطالب الشعبية بزيادة العنصر الديني في السياسة. وإذا كانت وجهة النظر السابقة صحيحة فإنها تعني أن هنالك آفاقا محدودة جدا لديموقراطية ليبرالية علمانية في المنطقة.
هل يمكن تبرير هذه النظرة المتشائمة؟ إن وجهة النظر السائدة تترك حقيقتين رئيسيتين دون تفسير، ما يثير الشكوك حول مدى ارتباطها بالأحداث الراهنة في البلدان ذات الغالبية المسلمة، وأولها أن التدين الفردي ليس مؤشرا قويا على السلوك الانتخابي والتفضيلات السياسية، وثانيها أن الأحزاب التي نجحت في اجتذاب أصوات الناخبين في البلدان العربية تمتلك في العادة سجلا من التجارب الناجحة في توفير الخدمات الاجتماعية.
ففي البلدان ذات الغالبية المسلمة لا يمكن للتدين الفردي أن يكفي للخروج بتوقع جدير بالثقة بشأن السلوك الانتخابي، فتحديد ما إذا كان المرء متدينا أم لا ليس ذا أثر يذكر في تحديد الجهة التي سيصوت لها في الانتخابات أو في تحديد آرائه المتعلقة بقضايا سياسية محددة. وهذه الظاهرة يجب أن تسلط بعض الشك على دور الإسلام كمصدر لأجندة أيديولوجية معينة. ولا شك في أن أنصار الإسلام السياسي ربما يمتلكون أفكارا معينة بشأن ما يقتضيه الإسلام في ميدان السياسة العمومية والحوكمة، لكن هذه الاعتبارات لا يبدو أنها تقف خلف النجاح الانتخابي للحركات السياسية الإسلامية.
لقد أظهرت الدراسات التي أجريت في الأراضي الفلسطينية والمغرب والجزائر ومصر أن الإسلام ليس له إلا تأثير ضئيل على المواقف السياسية التي يتخذها الناس، وبالخصوص: على المواقف تجاه الديموقراطية، كما أنه ليس له إلا قوة تفسيرية ضئيلة جدا في شرح دواعي دعم الديموقراطية في البلدان العربية. ففي لبنان لا يعد التدين عاملا مهما في توقع وجهة النشاط السياسي؛ وفي إندونيسيا، والتي تضم أكبر غالبية إسلامية في العالم، لم يكن التدين ذا أثر مهم في تفسير السلوك الانتخابي في انتخابات العامين 1999 و2004، كما ان «الأيديولوجيا الإسلامية» لا تفسر أيضا الدعم الشعبي الذي تتلقاه الأحزاب الدينية في إندونيسيا. وفي آسيا الوسطى لا تؤثر الانتماءات الدينية على التفضيلات بين الديموقراطية والإسلام السياسي. وحتى في آسيا الوسطى «هنالك اختلاف ضئيل بين المسلمين والمتطرفين واللادينيين... بل ان هنالك أمراً يثير الصدمة أكثر، وهو أن معظم المسلمين الملتزمين يكادون يتماثلون في تأييدهم للديموقراطية مع المسلمين غير الملتزمين». ويضاف إلى ما سبق أن البيانات الإحصائية التي يقدمها (الباروميتر العربي) تبين لنا أن إيمان المرء، أو عدم إيمانه، بأن الدين يجب أن يكون له موقع في السياسة لا يوضح الكثير بشأن ما يعتقده حول القضايا السياسية المختلفة. فالآراء المتعلقة بالسياسة العمومية تميل إلى أن تترافق مع عدد من العوامل، بما فيها: الحالة الاجتماعية-الاقتصادية (الدخل، والتعليم، والحالة الزوجية، والعمل، .... إلخ)، لكن المواقف التي عبر عنها أصحابها تجاه حضور الإسلام في السياسة لم يكن لها في العادة إلا قدرة ضئيلة جدا في تفسير مسائل سياسية بعينها.
المقال منشور بالتعاون مع مشروع منبر الحرية
ترجمة علي الحارس
minbaralhurriyya.org