نص

من يصنع هذا الضجيج؟

تصغير
تكبير
ارتفع في الحي ضجيج غريب، استمر لأربعة أيام فأخرج الناس من بيوتهم تسحبهم تساؤلاتهم.

في البداية كان الضجيج محدودا، يشعر به المتيقظ و المقيد في طور الوعي، لكنه في اليوم التالي أخذ بالتصاعد، وبدا مرتفعا جدا بحيث أيقظ جارنا أبا سالم من رقدة الظهيرة، فخرج من بيته وتوعد الفاعل بأشد الوعيد.

قلت لأمينة:

«ألا تشعرين بهذا الإزعاج؟»

كانت تقلم أظافر (طارق)، ردت وهي منهمكة بما تفعل:

«بلى، ولكن ما باليد حيلة»

حدثتها:

«بل هنالك حيل عديدة لكنك تستسلمين»

قلبت شفتيها:

«لا يرتفع الضجيج إلا في الظهيرة أو في الليل، ضع قطنا في أذنيك ونم»

وقامت ترتب الملاءات في الدولاب الخشبي، فأخذت الهاتف من رقدته فوق المنضدة، طلبت الرقم بلمسات خفيفة، أجابني الصوت عبره.

قلت:

عليكم أن تتصرفوا حيال هذا الضجيج المزعج الذي يقلق الحي، سأتقدم بشكوى وطلب تفتيش عام.

ارتفعت الظهيرة وركض الضجيج في الطرقات مدويا بجرأة أكبر، ترك الطلاب دفاترهم، والكتاب أقلامهم، والأطفال ألعابهم، والنائمون مخادعهم، خرج الجميع بشعور مهوشة وأعين أذبلها سواد السهر، رأيت أبا سالم يحمل مكبرا للصوت وقد اصطفت خلفه وجوها أراها لأول مرة في حينا، كان يتوعد الضجيج والمتسببين فيه بأشد الوعيد، ويندد بهم، وكان أهل الحي يصفقون، صفقت معهم، وسعيت إليه، قلت له:

«أبو سالم، أرجوك اضرب بيد من حديد وسأكون معك»

تمددت خطوط الضحكة على وجهه، ورحب بي قائلا :

«حييت يا جاري»

انسحبت الشمس بخفوت، وذوى الضجيج، حتى اختزلته مسامات الوقت، كنت متعبا وجائعا، وكانت أمينة تحضر طعام العشاء، جلسنا حول المائدة، لاحظت أنها لا تمد يديها، سألتها:

«لم لا تأكلين؟!»

خرج صوتها متجعدا

«لا أستطيع، أريد أن أنام وحسب»

فرغت من الطعام، يثقلني وهن النعاس، وضعت (طارق) في فراشه، بدا متهالكا ومستسلما، غسلت أسناني وتكاسلت عن الوضوء، استكنت في فراشي يستلبني خيط الوسن، أوشكت أن أغرق في بحره، فارتفع الضجيج مفزعا!

اعتلى بكاء (طارق)، هبت (أمينة) مذعورة، أخذت تعصب رأسها، صرخت بي:

«هذا قطن رديء، أحضر آخرا»

قمت من رقدتي، رأيتها تدور في الغرفة، خرجت إلى الشارع، رأيت نساء الحي متجمهرات، وقد تسرب من عباءاتهن النواح، وأطفالهن مبعثرون على الأرض قربهن، كان أبو سالم يمسك مكبر الصوت ويتوعد بشدة أكبر هذه المرة، أمسك بي صداع ضارٍ، ذهبت للصيدلية لطلب أقراص البندول، كان المكان فارغا باردا والأدوية تدعوني إليها، خرجت أهش صداعي ويهشني، والبيوت اليقظة تحدق بي وتشكوني سهادها، كان الضجيج مستبدا، وكان مكبر صوت أبي سالم عاليا، عدت للبيت وأنا أبحث عن صوت أمينة أو طارق، فقد ذاب صراخها في حضرة الضجيج، بحثت، كان البيت خاليا، خرجت لشارع الحي لأسأل النسوة ربما تعرف إحداهن شيئا، باغتني وجه طارق ذابلا وخيط رطب يسيل من فمه.

سألته: أين ماما؟

هز رأسه ولم يجب، جلت ببصري، رأيتها هناك جالسة على كرسي في حديقة إحدى جاراتنا، وهي ترش عليها الماء وتقرأ آيات من القرآن، قالت لي:

«كادت زوجتك أن تموت يا أبا طارق... ستر الله، مزقها صداعها وإرهاقها كما مزقنا جميعا»

أضافت جارة أخرى:

«أنقذونا يا جاري، هذا الضجيج يمتصنا ويغيبنا في دوامته»

برحتهن غاضبا، طلبت الرقم أزأر به:

«عليكم أن تجدوا حلا! هذه مسؤوليتكم، فتشوا المكان وإلا فتشته بنفسي»

سرت إلى التجمهر العام، كان أبو سالم يتوعد في مكبر الصوت تحلقت حوله أبواق ملونة، وصلت سيارة الشرطة، أخذت تفتش المنازل منزلا منزلا، والضجيج يعلو ويعلو، فتك بي الصداع، أحسست أن طبلة أذني تتمزق، حولت النظر إلى أمينة، كانت تتلوى بينما يمسك طارق بثوبها، فجأة سكن كل شيء، انقطع الضجيج تماما، أدرت رأسي في وجوه الجيران والأحباب، وضع جميعهم الأيدي على الآذان، قلت لأحدهم

«حرر أذنيك، لقد توقف الضجيج»

طالعني مستغربا، وتحركت شفتاه ولسانه دون صوت، ركضت إلى أبي سالم، سألته: من كان يصدر ذاك الضجيج؟

أغلق مكبر الصوت، وأفلت من خلفه أبواقَهم، وحرك شفتيه مبتسما، فلم أسمع منه شيئا.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي