خواطر تقرع الأجراس / مقاهي الثقافة وثقافة المقاهي

| u0645u0635u0637u0641u0649 u0633u0644u064au0645u0627u0646 |
| مصطفى سليمان |
تصغير
تكبير
كانت الثقافة في تراثنا القديم تنشط في مجالس العلماء حيث شيوخ النقد واللغة والنحو والأدب والتاريخ والفقه والتفسير... وكان الشيوخ يجيزون المتخرج من حلقاتهم وكأنه مُنِح شهادة الدكتوراه، ليرْووا عنهم ما تلقنوه من علم. والقارئ، لا بد، يذكر ما رواه طه حسين في سيرته (الأيام) من نوادر شيوخ العمود في الأزهر حيث ضاق ذرعاً بأعمدتهم المتهاوية البنيان الفكري، وبمناهج تلقينهم البالية المثيرة للسخرية والشفقة والنفور.

ومما لا أنساه تندُّره على شيخ عمود قرأ بيتاً من الشعر الجاهلي: على أن دارَ السّتِّ من أهلها قفْرُ! والرواية الصحيحة: على أن داراً لستِ من أهلها قفْرُ؟! كنت وقتها طالباً في المرحلة الإعدادية أقرأ (الأيام) في قاعة المطالعة، في المركز الثقافي في مدينتي، وكان الصمت المطبق يسود القاعة... فما كان مني إلا أن انفجرت بضحكة فجائية حاولت كظمها فلم أفلح، والصمت يُهيِّج الضحك، فخرجت فوراً متعرقاً من الخجل، ومن نوبة الضحك الهستيرية!

وبعيداً عن تلك المجالس القديمة، وأعمدة الأزهر، فقد عرفنا المقاهي الثقافية، والديوانيات في بعض دول الخليج، وبخاصة في الكويت، والتي تذكِّرنا بالصالونات الأدبية الشهيرة في الأدب العالمي كصالون جورج صاند، ومدام دوستال... وكذلك الصالونات الأدبية المعروفة في مصر كصالون العقاد، وصالون مي زيادة التي عشقها العقاد وزكي مبارك وكثيرغيرهما.

كانت مقاهي الثقافة الأوروبية معاهد ومراكز ثقافية بل وجامعات خرّجت الكثير من الفنانين والكتّاب والشعراء والثوريين... قال الروائي الإيرلندي جورج مور، في كتابه «اعترافات شاب» عن مقهى «أثينا الجديدة»:

«إنني لم ألتحق بجامعة أكسفورد ولا بجامعة كمبردج، ولكنني التحقت بمقهى أثينا الجديدة، وإن من يبغي معرفة ما عن حياتي ينبغي أن يعرف شيئاً ما عن أكاديمية الفنون الرفيعة هذه، لا تلك الأكاديمية الرسمية الغبية التي نقرأ عنها في الصحف».

ومن أقدم مقاهى أوروبا مقهى (البروكوب) في باريس 1686، حيث كانت تُقرأ القصص القصيرة والقصائد اللاذعة لفولتير أكبر الممهدين للثورة الفرنسية الكبرى. بالإضافة إلى جان جاك روسو، ومونتسكيو، وبلزاك، وفيكتور هوغو، وفيرلين، ومالارميه... وكل من أثرى الأدب والفن والثقافة العالمية، والفكر الثوري ليس في فرنسا وأوروبا فقط بل في كل أنحاء العالم. فكل هؤلاء، وغيرهم، كانوا مشاعل التنوير في ظلام الفكر العالمي.

وفي أدبنا المعاصر أدّت المقاهي الثقافية في القاهرة، كمقهى الفيشاوي، دوراً رائداً في الحركة الثقافية. فهناك كان يلتقي الشعراء والأدباء الكبار والفنانين والصحافيين والسياسيين... وأصحاب الآذان المُصغية بصمت وتلصُّص لكتابة التقارير لذوي الشأن! وفي دمشق اشتهرت مقهى الهافانا بكل أنواع الرواد المذكورين سابقاً كأصحاب الأقلام واللسان... والآذان!

أما المقاهي في حياتنا اليوم فمُسخت إلى كهوف دخانية حيث تتلبّد في أجوائها أدخنة النارجيلة وضباب السجائر وثرثرة فارغة حول طاولات تتكدّس فوقها أجهزة الهواتف الذكية والحواسيب الدفترية، ويتم تبادل آخر الهاشتاقات البريئة وغير البريئة. لا صحف بين الأيدي. لا كتاب صدر حديثاً. لا حوار حول قضية فكرية، أو ثقافية أو سياسية. لا قراءات إبداعية... والثقافة السائدة هي ثقافة المقاهي السطحية التافهة لقارئ مكسال، وإذا نازعته نفسه إلى القراءة اكتفى بتصفح عناوين الصحف الإلكترونية، أو التنقيب عن أخبار الفنانات والفنانين وتبادل الطرائف والنكات، ونسخ ولصق الصورالإباحية وإرسالها إلى العاشق والمعشوق، وربما إلى شيخ يحلم بالرجوع إلى صباه... لتقوية الباه!
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي