أماكن / خورخي في أصيلة (1)

u062cu0645u0627u0644 u0627u0644u063au064au0637u0627u0646u064a
جمال الغيطاني
تصغير
تكبير
صيف عام واحد وتسعين من القرن الماضي... نزلت مدينة أصيلة المغربية، كنت مدعوّا للمشاركة في أنشطة مهرجانها الثقافي الشهير.

في اليوم الأول لوصولي، ذهبت في المساء إلى دار محمد بن عيسى مؤسس المهرجان «وزير خارجية المغرب» بصحبة الروائي السوداني الكبير صديقي الطيب صالح.

فوجئت بأحد الأصدقاء المغاربة يقول إن خورخي أمادو سيصل بعد قليل، دهشت وسررت.

أما الدهشة فلأنني لم أطلع ولم أقرأ في منشورات المهرجان أو الصحف المغربية ما يشير إلى وصول كاتب كبير بهذا الحجم.

أما السرور فلأنني سأراه، وهذا شعور أعرفه جيدا، عندما التقي شخصيا بكاتب أحبه وأعجبت به، سرور تلقائي إذ أتطلع إلى من قرأت له، وأراه وأسمع منه مباشرة.

بدأت علاقتي بخورخي أمادو في الخمسينات... عندمنا قرأت رواية من أربعة أجزاء عنوانها «فارس الأمل» عن بطل ثوري في أميركا اللاتينية، كانت مطبوعة في بيروت، دار نشر تتبع الحزب الشيوعي اللبناني، وكانت الواقعية الاشتراكية منتشرة في ذلك الوقت، ولها دعاتها، ولها مواصفاتها أيضا، حيث يجب أن يظهر البطل الذي ينتمي إلى العمال أو الفلاحين إيجابيّا، نبيلا، بل يستحسن أن يكون موفور الصحة، حسن المظهر، يقدم على عمل الخير، ومساعدة المحتاجين، ومقاومة الرأسماليين الأشرار.

في تلك الفترة صدرت في مصر سلسلة بعنوان «مطبوعات الشرق»، كانت تغزو الأدب السوفياتي المطابق لمواصفات الواقعية الاشتراكية خلال الحقبة الستالينية.

وأذكر من الأدباء الذين قرأت لهم روائيّا سوفياتيّا اسمه عمانوئيل كازاكفتش. كان يكتب عن الجنود الذين حاربوا وماتوا وهم يهتفون باسم الزعيم، وعندما زرت الاتحاد السوفياتي عام ستة وثمانين، سألت عنه فلم أجد من يسمع به، إلا أن هذه السلسلة قدمت ترجمات ممتازة لأدب تشيخوف وجوجول وإلكسندر كوبرين وتورجنيف، هكذا أتيح لنا أن نقرأ في وقت مبكر ترجمات جيدة للأدب الروسي إلى جانب الأدب السوفياتي الدعائي، والذي وضع حدّا للأدب الروسي العظيم. وهذه أفدح تجربة تثبت أن محاولة فرض أي قيود على الأدب من خارجه انطلاقا من دعاوى السياسة أو الدين أو أي شروط أخرى تؤدي إلى تسطيح الأدب وإلى ظهور أدب أبيض لا يقتحم التضاريس الدقيقة للإنسانية.

تلك هي الظروف التي قرأت فيها خورخي أمادو، بالطبع لم أجد في أمادو شبهًا بكازاكفتش أو الأدباء السوفيات الآخرين، لكنني قرأت عن موقفه السياسي، وأنه مناضل كبير وعضو في الحزب الشيوعي البرازيلي، ولا أدري لماذا أراه قريبا من كاتبين كبيرين عاشا في الاتحاد السوفياتي لكن كان لهما وضع خاص.

الأول ميخائيل شولوخوف، خصوصا في روايته «الدون الهادئ»، والآخر إيليا أهرنبورغ، الذي سمح له ستالين بالسفر إلى فرنسا وعاش في باريس، وخلال الخمسينيات قدمت دار اليقظة العربية ترجمة كاملة لروايته «سقوط باريس» في مجلدين، قرأتها أيضا في تلك الفترة.

لذلك إذا جاز تقسيم الروائيين إلى طبقات مثل الشعراء فإنني أرى أمادو واقفا في صف واحد مع شولوخوف وأهرنبورغ وأرسكين كالدويل وشتاينبك، إلا أنه يتميز بخصوصية نابعة من الواقع الذي جاء منه ويعرفه جيدا، من البرازيل، أي أنه ينتمي إلى أميركا اللاتينية.

ويبدو أن أمادو قد انتبه في الوقت المناسب إلى خطورة الإبداع من خلال أطر مسبقة أو لخدمة نظريات سياسية، كان أمادو مخلصا تماما لما اعتنقه ولانتمائه الحزبي، إلا أن موهبته الكبرى رفضت القواعد الستالينية للكتابة الأدبية، هكذا بدأت أعماله تتجه إلى عمق الواقع، وبدأ حسه الساخر يظهر في أعماله الروائية الكبرى مثل «جابرييلا» و«القرنفلة» و«السيدة باتبستا متعبة من الحرب».

وللأسف قرأت هذه الأعمال خلال الثمانينات، إذ ترجمت متأخرة بالنسبة لمواعيد صدورها. ولذلك ظل نموذج «فارس الأمل» الرواية التي تقص سيرة الزعيم الشيوعي البرازيلي كارلوس بريستس، إلا أنني كنت مشبعا بأمادو، ربما لما قرأته عنه، وربما أيضا لهذا التأثير الخفي المنطلق من الأدباء الكبار والذي يجتاز حواجز عديدة بما فيها حاجر العدم، إذ يظل تأثيرهم بعد رحيلهم.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي