فاصلة / شمس... وقواعده الأربعون

| فهد توفيق الهندال |


بمجرد أن تنتهي من رواية ما... وتجد نفسك تسير بلا وجهة معينة، لدرجة أنك تطوي جناح الليل ويسرقك الوقت حتى الفجر، وتقضي بقية الوقت تراقب السقف متأملا/ مخترقا إياه لدرجة ترى أفلاكا بعيدة تحوم حول مجرات خرافية، تأكد أن لها مفعولا سحريا قويا، نجح مؤلفها في إثارة جانب ما لديك.
هذا ما حدث لي مع رواية (قواعد العشق الأربعون) للكاتبة التركية إليف شافاق Elef Shafak، حيث انقسمت الرواية زمنيا بين زمن قراءة إيلا وهي في عام 2008 لرواية (الكفر الحلو) لصاحبها عزيز زاهار، وزمن حكاية الرومي والتبريزي بالعودة إلى عام 1252 م، حيث اللحظة التي يستهل فيها السرد على لسان رأس الواوي، القاتل الذي سلب من شمس حياته، كيف تتبعه عيناه– شمس– في كل مكان، تلاحقانه لتعذباه بما اقترفته يداه، مبررا أن قتله لشمس لم يكن سوى تنفيذ لتفادي تهديد بكشف حقيقته في المكان الذي لجأ إليه بعد خروجه من قلعة آلموت. لتبدأ فصول حياة شمس في بحثه عن النصف الذي سيكمل فلسفته في حياته، ليمر بأحداث متقلبة المواجع والشخصيات. على الجانب الآخر الرومي، قطب زمانه الباهي، الذي يفد عليه الآلاف بحثا عن حكمه وبركاته، يبحث هو الآخر عن مرآة يرى ما لم يره بعد في روحه، فيتعلم كيف يوقظها بعد سبات طويل حيّد فيها العقلُ القلبَ في التدبر والتفكر لأدق تفاصيل الحياة المشكلة للعالم الأكبر.
ولعل هذا ما كانت تفتقده إيلا بدورها في حياتها الزوجية، حيث الزوج/ ديفيد الغارق في أعماله وملذاته، لتفتقد جانبا مهما وسط هذه المتاهة اليومية من علاقة باردة، عنوانها زواج ظاهري، وحياة صامتة بدافع الرغبة المجبرة على أن تحافظ على تماسك بيتها لآخر لحظة، حتى تعثر على عزيز، مؤلف الكفر الحلو، بعد بحث طويل، فتبدأ معه قصة موازية لقصة الرومي مع شمس، فكلا من الرومي/ ايلا وجدا في شمس/ عزيز الجانب الأعمق من معارف الحياة، لتتفتح النفس على مدارك أوسع، فيستعبد الجمال الروحي شخصيات العمل القلقة، ليجد كل منهم عالمه/ كونه المفقود مختبئا في داخله، كما جاء في إحدى القواعد الأربعين. لنقف مع ابطال الرواية في حيرة عن طبيعة العلاقة بينهم، أهو الحب أو العشق في أقصى صوره أو هي صداقة اختلطت فيها المفاهيم الإنسانية بكل ما هو جميل فباتت الحدود منعدمة؟
«كل حب وصداقة حقيقين هما قصة تحول غير متوقع، ولو بقينا ذات الشخص قبل ان نحب وبعده، فهذا يعني ان حبنا لم يكون كافيا».
هكذا رأى شمس والرومي حقيقة العشق الذي تحرك في كهف أعماق الثاني برغم نورانية العلم التي كانت تسكنه، وقمة الهرم في عصره التي يمثلها في المكانة الدينية، إلا أن لقاءه وعلاقته بشمس التبريزي كانت المحطة التي فصلت بين ما كان عليه الرومي وما بات بعده. لأتساءل... هل يمكن أن يغيّر الإنسان قناعته بالدنيا بمجرد أن يستبدل مفهوم الحب المقرون بالشهوة بالعشق الذي يراه البعض «الحنين إلى الأصل، وهو الذي يخلّص الإنسان من العيوب. كما يرتبط العشق بإدراك الجمال، والحياة بكل مظاهرها تعبّر عن تجليات العشق، وثمرة العشق تتجلّى في مواهب تفتح المواهب في نفس العاشق. والتجاذب بين العاشق والمعشوق يخلق حركة نحو الكمال»؟
سؤال يثير فيها سؤالا آخر عن مفهومنا عن الحياة برمتها، هل هي ساعات يومية ترزح تحت ضغط الالتزامات والعلاقات الاجتماعية الشكلية والمظاهر التي ستَصدم لا محال حملة أقنعتها يوما بحائط الواقع، وتحرق كل عوالمهم الافتراضية؟!
هكذا كانت تساؤلات ايلا، وهي تراقب حياتها اليومية، المستهلكة من قبل زوج ربما وجد في خياناته دفئا مفقودا في علاقته الزوجية الباردة، دون أن يعني ذلك تبريرا لأنانيته ومزاجيته. ولعل المواجهة بينهما لاحقا كانت كفيلة للإجابة على السؤال، كذلك مواجهتها– ايلا- مع عزيز نفسه الذي امتنع عن ري عطش الهيام به، مبررا ذلك بدرجة العشق التي اكتمل معها استعداده للموت بصورة أنقى وأصفى من أي شهوة عابرة. فالكون يصبح مختلفا عندما تعشق النار الماء. «فلا قيمة للحياة من دون عشق».
على جانب وجه العملة الآخر من الرواية، نجد شمس التبريزي مستعدا هو الآخر للموت، رافضا كل اغراء السلطة والجمال، منتصرا على الكراهية والضغينة بقوة الروح، وهو ما غيّر كثيرا في شخصية الرومي بعظمتها وسط ذهول أقرب الناس إليه/ أهله، وأهل قونية، وهذا الأثر نجده فيما قاله الرومي يوما بعد موت شمس:
«قدمت عباءتي وعمامتي من أجل كذبة
لكن روحي أقدمها من أجل الحقيقة».
أخيرا... وأمام الحياة وتغييراتها المتلاحقة، نختم المقال بإحدى قواعد العشق الأربعين:
«الشيء الذي لا يمكن التعبير عنه بالكلمات لا يمكن إدراكه إلا بالصمت».
والعاقبة لمن يعقل ويتدبر.
* كاتب وناقد كويتي
@bo_salem72
هذا ما حدث لي مع رواية (قواعد العشق الأربعون) للكاتبة التركية إليف شافاق Elef Shafak، حيث انقسمت الرواية زمنيا بين زمن قراءة إيلا وهي في عام 2008 لرواية (الكفر الحلو) لصاحبها عزيز زاهار، وزمن حكاية الرومي والتبريزي بالعودة إلى عام 1252 م، حيث اللحظة التي يستهل فيها السرد على لسان رأس الواوي، القاتل الذي سلب من شمس حياته، كيف تتبعه عيناه– شمس– في كل مكان، تلاحقانه لتعذباه بما اقترفته يداه، مبررا أن قتله لشمس لم يكن سوى تنفيذ لتفادي تهديد بكشف حقيقته في المكان الذي لجأ إليه بعد خروجه من قلعة آلموت. لتبدأ فصول حياة شمس في بحثه عن النصف الذي سيكمل فلسفته في حياته، ليمر بأحداث متقلبة المواجع والشخصيات. على الجانب الآخر الرومي، قطب زمانه الباهي، الذي يفد عليه الآلاف بحثا عن حكمه وبركاته، يبحث هو الآخر عن مرآة يرى ما لم يره بعد في روحه، فيتعلم كيف يوقظها بعد سبات طويل حيّد فيها العقلُ القلبَ في التدبر والتفكر لأدق تفاصيل الحياة المشكلة للعالم الأكبر.
ولعل هذا ما كانت تفتقده إيلا بدورها في حياتها الزوجية، حيث الزوج/ ديفيد الغارق في أعماله وملذاته، لتفتقد جانبا مهما وسط هذه المتاهة اليومية من علاقة باردة، عنوانها زواج ظاهري، وحياة صامتة بدافع الرغبة المجبرة على أن تحافظ على تماسك بيتها لآخر لحظة، حتى تعثر على عزيز، مؤلف الكفر الحلو، بعد بحث طويل، فتبدأ معه قصة موازية لقصة الرومي مع شمس، فكلا من الرومي/ ايلا وجدا في شمس/ عزيز الجانب الأعمق من معارف الحياة، لتتفتح النفس على مدارك أوسع، فيستعبد الجمال الروحي شخصيات العمل القلقة، ليجد كل منهم عالمه/ كونه المفقود مختبئا في داخله، كما جاء في إحدى القواعد الأربعين. لنقف مع ابطال الرواية في حيرة عن طبيعة العلاقة بينهم، أهو الحب أو العشق في أقصى صوره أو هي صداقة اختلطت فيها المفاهيم الإنسانية بكل ما هو جميل فباتت الحدود منعدمة؟
«كل حب وصداقة حقيقين هما قصة تحول غير متوقع، ولو بقينا ذات الشخص قبل ان نحب وبعده، فهذا يعني ان حبنا لم يكون كافيا».
هكذا رأى شمس والرومي حقيقة العشق الذي تحرك في كهف أعماق الثاني برغم نورانية العلم التي كانت تسكنه، وقمة الهرم في عصره التي يمثلها في المكانة الدينية، إلا أن لقاءه وعلاقته بشمس التبريزي كانت المحطة التي فصلت بين ما كان عليه الرومي وما بات بعده. لأتساءل... هل يمكن أن يغيّر الإنسان قناعته بالدنيا بمجرد أن يستبدل مفهوم الحب المقرون بالشهوة بالعشق الذي يراه البعض «الحنين إلى الأصل، وهو الذي يخلّص الإنسان من العيوب. كما يرتبط العشق بإدراك الجمال، والحياة بكل مظاهرها تعبّر عن تجليات العشق، وثمرة العشق تتجلّى في مواهب تفتح المواهب في نفس العاشق. والتجاذب بين العاشق والمعشوق يخلق حركة نحو الكمال»؟
سؤال يثير فيها سؤالا آخر عن مفهومنا عن الحياة برمتها، هل هي ساعات يومية ترزح تحت ضغط الالتزامات والعلاقات الاجتماعية الشكلية والمظاهر التي ستَصدم لا محال حملة أقنعتها يوما بحائط الواقع، وتحرق كل عوالمهم الافتراضية؟!
هكذا كانت تساؤلات ايلا، وهي تراقب حياتها اليومية، المستهلكة من قبل زوج ربما وجد في خياناته دفئا مفقودا في علاقته الزوجية الباردة، دون أن يعني ذلك تبريرا لأنانيته ومزاجيته. ولعل المواجهة بينهما لاحقا كانت كفيلة للإجابة على السؤال، كذلك مواجهتها– ايلا- مع عزيز نفسه الذي امتنع عن ري عطش الهيام به، مبررا ذلك بدرجة العشق التي اكتمل معها استعداده للموت بصورة أنقى وأصفى من أي شهوة عابرة. فالكون يصبح مختلفا عندما تعشق النار الماء. «فلا قيمة للحياة من دون عشق».
على جانب وجه العملة الآخر من الرواية، نجد شمس التبريزي مستعدا هو الآخر للموت، رافضا كل اغراء السلطة والجمال، منتصرا على الكراهية والضغينة بقوة الروح، وهو ما غيّر كثيرا في شخصية الرومي بعظمتها وسط ذهول أقرب الناس إليه/ أهله، وأهل قونية، وهذا الأثر نجده فيما قاله الرومي يوما بعد موت شمس:
«قدمت عباءتي وعمامتي من أجل كذبة
لكن روحي أقدمها من أجل الحقيقة».
أخيرا... وأمام الحياة وتغييراتها المتلاحقة، نختم المقال بإحدى قواعد العشق الأربعين:
«الشيء الذي لا يمكن التعبير عنه بالكلمات لا يمكن إدراكه إلا بالصمت».
والعاقبة لمن يعقل ويتدبر.
* كاتب وناقد كويتي
@bo_salem72