مشهد
كائنات ورقية

د. زياد الوهر


لعلي لا أذيع سرا إن قلت إن كياناتنا على الأرض الآن تقوم على الورق، فليس هنالك من معاملة حكومية أوغير حكومية تتم إلا والورق ضروري فيها. وتعتبر شهادة الميلاد وشهادة الوفاة أكثر الأدلة على ذلك بالرغم من أن كلتا الشهادتين لا يراها المرء حين تُكتب، وقد أكد هذا المعنى الكاتب الكبير غازي القصيبي في كتابه (حياة في الإدارة) حين قال: } إلا أن الطفل لا يحس بوجود الورقة التي توثق ميلاده، كما أن المتوفى لا يحس بوجود الورقة الثانية- شهادة الوفاة{.
ويبدو أن الإنسان قد فَرَض على نفسه الشقاء باستحداثه الورق، فما من إنسان مهما كَبُر وعلا شأنه إلا ويملك مجموعة من الوثائق الورقية المهمة، والتي إن ضاعت أو اختفت؛ يموت ورقيا بالرغم من وجوده حيا يرزق.
ومن أشهر الأوراق التي يُفني الإنسان عمره في جمعها؛ بل والموت في سبيلها؛ أوراق النقد (النقود)، وهي الوسيلة المثُلى للشراء والبيع وتبادل المنافع. والحق يقال أن إنسان العصر الحديث قد بدأ في التغلب على هذه المعضلة من خلال استخدام بطاقات الائتمان والتي جنّبته الحاجة لحمل النقود واستعمالها في معظم أماكن التسوق والدوائر الحكومية. لكن بالطبع مازال الإنسان على حاله في السعي لجمع النقود منذ الأزل وإلى الأزل. نحن كائنات ورقية، هذه هي الخلاصة... وأتمنى عليك أن تتخيل معي (خيالا فقط) حين تراجع وزارة ما من أجل إجراء معاملة لك، فأول سؤال سيطرحه الموظف عليك أين أوراقك الثبوتية (نموذج طلب المعاملة، شهادة الميلاد، عقد الإيجار، رخصة القيادة، شهادة الراتب، جواز السفر، البطاقة المدنية، أوالجنسية مثلا)، كل هذا وأكثر من أجل معاملة واحدة بسيطة فما بالكم إذا تطلب الأمر معاملة أكثر تعقيدا ساعتها سيتطلب الأمر أياما وأسابيع وعشرات الأوراق والنماذج، وسيكثر عليها الأختام والدمغات والطوابع والتواقيع «الملكية» التي يتفنن أصحابها باختيار الأقلام الفاخرة لأجلها. إن هذا الروتين الورقي؛ أغلب الظن قد اختلقه بعض صغار الموظفين عديمي الإنتاج محدودي الوعي، إلى أن أصبح إرثا تاريخيا ثقيلا يصعب التخلص منه إلا بقرارات جريئة من رجالٍ أصحاب قرار واستقرار نفسي. فعالمنا الحديث والحمدلله يمتاز بالتقنيات والتطبيقات الإلكترونية العالية، ولا يحتاج إلا لتسخيرها لخدمة البشرية وتطبيقها على واقعنا اليومي.
وأعود بأذهانكم أيها السادة القراء إلى الصورة النمطية التي رسمها في خيالنا الفن السينمائي والتلفزيوني العربي للموظف «المخلص» في عمله! حيث تجد على مكتبه عشرات الملفات والمئات من الأوراق ويرتدي نظارة للقراءة ويبدو دائما نزق المزاج مُعكّرا لا يضحك إلا نادرا.
هذا الموظف حين تُقبل عليه لقضاء مصلحة لك فتجده قد انفعل، وعَلَت وجهه قسمات العصبية، ويصور لك عظمة الطلب وخطورته، مفترضا أنه سيحفر لأجلك قناة السويس، أو سيشيد لسيادتك السد العالي، أو من الممكن أنه سيحرر لأجل عيونك فلسطين السليبة. هذه الشخصية النمطية تجدها في كل ركن، وفي كل إدارة من إدارات وزاراتنا العتيدة في دولنا العربية، وبعد أن ذهب أولئك؛ تركوا وراءهم هذا الإرث الذي اكتسبته الأجيال اللاحقة، فاتبعت نفس الروتين دون تحديث أو تطوير.
ورق على ورق، في كل مكان ورق، في الشارع والبيت والعمل والمدرسة والبقالة، حتى في مطعم الفلافل ومع الباعة المتجولين...لماذا هذا الهدر في ثروة الإنسان على الأرض؟ ألم يتفتق الذهن البشري عن وسيلة يستعملها بدلا عن الورق؟ أو ليس الكمبيوتر والهواتف الذكية والبريد الإلكتروني وسائل حديثة تُعيننا على التخلي عن استعمال الورق.
فنحن إذا كائنات ورقية بالمعنى الحرفي، فترانا نجري في كل خطواتنا نسابق الزمن ساعاتٍ وثوان، فأصبحت مع هذه السرعة أمزجتنا معكّرة وحَدّ العصبية لدينا منخفض جدا، نتوتر لأقل سبب، وننفعل إذا انتقدنا أحدهم لسبب أو لآخر. لم يعد منا من يطيق الانتظار، أو الوقوف في طابور، أو حتى أن يُصلي خلف الإمام الذي يُطيل قليلا في صلاته أو في خطبته يوم الجمعة. فأمسى الإنسان العصري هشّا سهل الاستفزاز، لينا رخوا كما الورق... لهذا أيضا نحن كائنات ورقية بجدارة.
وكما أن النار والماء هما العدو الأول للورق، فهما أيضا عدو للإنسان. يا سبحان الله اجتمع الخصمان في ضررهما على الإنسان، فالماء الكثير يضرنا، وقد نموت فيه إذا غرقنا وكذلك النار فضررها على الإنسان لا يحتاج لتوضيح. فإذا كان هذان الخصمان اللدودان قد اجتمعا في عداوتهما للإنسان، أو ليس حريّا بنا مثلا أن نحُدّ من استعمال الورق في حياتنا لننعم بدرجات أمان أكثر. وفي قصيدة من أعمال الشاعر أحمد فؤاد نجم بعنوان «ورق» قال في جزء منها:
ورق ورق ورق
أفكار ورق
أشعار ورق
شعار ورق
شعارات ورق
ثوار ورق
ثورات ورق
أحلام ورق
ورق ورق ورق ورق
آن الأوان لنبدأ التغيير في أنماط حياتنا وسلوكياتنا، فنتخلص من هذا الروتين الورقي نظرا للضرر الذي أحدثه كثرة استعمال الورق من تدمير ممنهج لاشجار الغابات والمناطق الخضراء، وما يتبع ذلك من تدمير للبيئة الخضراء والمساكن الطبيعية لآلاف الحيوانات والكائنات الحية التي تعيش حولها وعليها وانعكاساتها السلبية المباشرة على الإنسان، فالأمر لم يعد صعبا أو مستحيلا فلدينا من الحلول ما يكفي لنيسّر أمورنا بدون الكثير من الأوراق والتي غالبا ما تنتهي في حاويات القمامة أو في محلات الفلافل وعلى موائد الطعام.
[email protected]
ويبدو أن الإنسان قد فَرَض على نفسه الشقاء باستحداثه الورق، فما من إنسان مهما كَبُر وعلا شأنه إلا ويملك مجموعة من الوثائق الورقية المهمة، والتي إن ضاعت أو اختفت؛ يموت ورقيا بالرغم من وجوده حيا يرزق.
ومن أشهر الأوراق التي يُفني الإنسان عمره في جمعها؛ بل والموت في سبيلها؛ أوراق النقد (النقود)، وهي الوسيلة المثُلى للشراء والبيع وتبادل المنافع. والحق يقال أن إنسان العصر الحديث قد بدأ في التغلب على هذه المعضلة من خلال استخدام بطاقات الائتمان والتي جنّبته الحاجة لحمل النقود واستعمالها في معظم أماكن التسوق والدوائر الحكومية. لكن بالطبع مازال الإنسان على حاله في السعي لجمع النقود منذ الأزل وإلى الأزل. نحن كائنات ورقية، هذه هي الخلاصة... وأتمنى عليك أن تتخيل معي (خيالا فقط) حين تراجع وزارة ما من أجل إجراء معاملة لك، فأول سؤال سيطرحه الموظف عليك أين أوراقك الثبوتية (نموذج طلب المعاملة، شهادة الميلاد، عقد الإيجار، رخصة القيادة، شهادة الراتب، جواز السفر، البطاقة المدنية، أوالجنسية مثلا)، كل هذا وأكثر من أجل معاملة واحدة بسيطة فما بالكم إذا تطلب الأمر معاملة أكثر تعقيدا ساعتها سيتطلب الأمر أياما وأسابيع وعشرات الأوراق والنماذج، وسيكثر عليها الأختام والدمغات والطوابع والتواقيع «الملكية» التي يتفنن أصحابها باختيار الأقلام الفاخرة لأجلها. إن هذا الروتين الورقي؛ أغلب الظن قد اختلقه بعض صغار الموظفين عديمي الإنتاج محدودي الوعي، إلى أن أصبح إرثا تاريخيا ثقيلا يصعب التخلص منه إلا بقرارات جريئة من رجالٍ أصحاب قرار واستقرار نفسي. فعالمنا الحديث والحمدلله يمتاز بالتقنيات والتطبيقات الإلكترونية العالية، ولا يحتاج إلا لتسخيرها لخدمة البشرية وتطبيقها على واقعنا اليومي.
وأعود بأذهانكم أيها السادة القراء إلى الصورة النمطية التي رسمها في خيالنا الفن السينمائي والتلفزيوني العربي للموظف «المخلص» في عمله! حيث تجد على مكتبه عشرات الملفات والمئات من الأوراق ويرتدي نظارة للقراءة ويبدو دائما نزق المزاج مُعكّرا لا يضحك إلا نادرا.
هذا الموظف حين تُقبل عليه لقضاء مصلحة لك فتجده قد انفعل، وعَلَت وجهه قسمات العصبية، ويصور لك عظمة الطلب وخطورته، مفترضا أنه سيحفر لأجلك قناة السويس، أو سيشيد لسيادتك السد العالي، أو من الممكن أنه سيحرر لأجل عيونك فلسطين السليبة. هذه الشخصية النمطية تجدها في كل ركن، وفي كل إدارة من إدارات وزاراتنا العتيدة في دولنا العربية، وبعد أن ذهب أولئك؛ تركوا وراءهم هذا الإرث الذي اكتسبته الأجيال اللاحقة، فاتبعت نفس الروتين دون تحديث أو تطوير.
ورق على ورق، في كل مكان ورق، في الشارع والبيت والعمل والمدرسة والبقالة، حتى في مطعم الفلافل ومع الباعة المتجولين...لماذا هذا الهدر في ثروة الإنسان على الأرض؟ ألم يتفتق الذهن البشري عن وسيلة يستعملها بدلا عن الورق؟ أو ليس الكمبيوتر والهواتف الذكية والبريد الإلكتروني وسائل حديثة تُعيننا على التخلي عن استعمال الورق.
فنحن إذا كائنات ورقية بالمعنى الحرفي، فترانا نجري في كل خطواتنا نسابق الزمن ساعاتٍ وثوان، فأصبحت مع هذه السرعة أمزجتنا معكّرة وحَدّ العصبية لدينا منخفض جدا، نتوتر لأقل سبب، وننفعل إذا انتقدنا أحدهم لسبب أو لآخر. لم يعد منا من يطيق الانتظار، أو الوقوف في طابور، أو حتى أن يُصلي خلف الإمام الذي يُطيل قليلا في صلاته أو في خطبته يوم الجمعة. فأمسى الإنسان العصري هشّا سهل الاستفزاز، لينا رخوا كما الورق... لهذا أيضا نحن كائنات ورقية بجدارة.
وكما أن النار والماء هما العدو الأول للورق، فهما أيضا عدو للإنسان. يا سبحان الله اجتمع الخصمان في ضررهما على الإنسان، فالماء الكثير يضرنا، وقد نموت فيه إذا غرقنا وكذلك النار فضررها على الإنسان لا يحتاج لتوضيح. فإذا كان هذان الخصمان اللدودان قد اجتمعا في عداوتهما للإنسان، أو ليس حريّا بنا مثلا أن نحُدّ من استعمال الورق في حياتنا لننعم بدرجات أمان أكثر. وفي قصيدة من أعمال الشاعر أحمد فؤاد نجم بعنوان «ورق» قال في جزء منها:
ورق ورق ورق
أفكار ورق
أشعار ورق
شعار ورق
شعارات ورق
ثوار ورق
ثورات ورق
أحلام ورق
ورق ورق ورق ورق
آن الأوان لنبدأ التغيير في أنماط حياتنا وسلوكياتنا، فنتخلص من هذا الروتين الورقي نظرا للضرر الذي أحدثه كثرة استعمال الورق من تدمير ممنهج لاشجار الغابات والمناطق الخضراء، وما يتبع ذلك من تدمير للبيئة الخضراء والمساكن الطبيعية لآلاف الحيوانات والكائنات الحية التي تعيش حولها وعليها وانعكاساتها السلبية المباشرة على الإنسان، فالأمر لم يعد صعبا أو مستحيلا فلدينا من الحلول ما يكفي لنيسّر أمورنا بدون الكثير من الأوراق والتي غالبا ما تنتهي في حاويات القمامة أو في محلات الفلافل وعلى موائد الطعام.
[email protected]