مَزبَلة التاريخ!

تصغير
تكبير
ليست مزبلة مادية، كالتي نصنعها كل يوم في حياتنا، فتغدو مع مرور الأيام نسيا منسيا، بل هي مزبلة معنوية، والمعاني باقية غير فانية!، تلتصق في صفحات التاريخ، لا يمكن دفنها أو «طمطمتها»!مهما كانت، إذ تبقى ظاهرة ما بقيَ هناك فكر بشري متقد، قادرعلى التمييز بين أهل الحق، والظلمة، الذين تلوثت عقولهم، فانتقل هذا التلوث إلى سلوكياتهم وأفعالهم نحو البشرية، ليستحقوا بذلك أن يكونوا في مزبلة التاريخ.

إن هذه المزبلة– مزبلة التاريخ– ومنذ فجر التاريخ حملت بينطياتها كل القيم الأخلاقية الهابطة، التي ساهم في تشكيلها الطغاة والعصاة والمجرمون والفسقة، وقد اتفق هؤلاء الطغاة رغم اختلاف أزمنتهم وأمكنتهم، أو حتى مذاهبهم الفكرية (وإن وجدت فهي مجرد شعارات يتخذونها)، اتفقوا على ظلم أنفسهم وتجردهم من الإنسانية، وعدائهم لكل ما يبعث التجديد في الحياة، فهم يخشون من كل شيء اسمه تغيير، يخشون من وعي الناس ويقظتهم، ويخشون ثورات الثائرين!

إن التاريخ يشهد، ويقدم لنا الكثير من الأدلة على أن أكثر من يدخلون هذه المزبلة هم الطغاة، الذين وجهوا طغيانهم تحديدا نحو الإنسانية، فعاشوا يتلذذون بظلم الإنسان مستخدمين مختلف الوسائل المادية والمعنوية، وكأنهم لم يوجدوا في هذه الدنيا إلا ويكون همهم الأول هو القضاء على الإنسانية أو إخضاعها فتكون ذليلة منكسرة مطيعة لأوامرهم ونواهيهم.

لكن!، هيهات... هيهات، أن ينكسر أمامهم الأحرار، فالتاريخ يشهد لنا بأن هناك من الأحرار من قزّموا وعرّوا الكثير من الطغاة رغم قلة من يناصرهم، وبسبب علو وارتفاع نفسيات هؤلاء الأحرار سقطت عروش الطغاة، وغدو هم وعروشهم في مزبلة التاريخ، كلما مر المرء بذكرهم، يضع يده على أنفه اتقاءاً لتلك الرائحة العفنةالمنبعثة من تلك المزبلة التي ارتموا فيها...!، في المقابل نجد أن ذكر هؤلاء الأحرار هو الباقي المتجدد عبر العصور والأجيال، تفوح منه روح التضحية والإباء... تأمل!.

ومما يميز مزبلة التاريخ أنها ليست مقتصرة على الأفراد الطواغيت، بل بإمكانها أن تسع الشعوب أيضا، فهناك شعوب كثيرة قد دخلت هذه المزبلة بإرادتها، لاسيما تلك المجاميع البشرية التي ظلمت وتمردت على دعوة أنبيائها، أو دعوة الصالحين من البشر، دعوهم لأن يكفوا عن الدنو في وحل الدنيا والإرتفاع إلى علو ورفعة الأخلاق والقيم، لكنهم رفضوا هذه الدعوة واختاروا ظلم الصالحين وتشريدهم وملاحقتهم، فكان عاقبة مثل هذه الأمم أنها في مزبلة التاريخ، والشواهد على مثل هؤلاء الأقوام كثيرة...!

كما نلحظ أيضا (إذا تعمقنا أكثر) أن مزبلة التاريخ ليست مقتصرة على المشاهير ممن نعرفهم من الظلمة فحسب!، ممن يملكون القوة والنفوذ والسيطرة الإعلامية، بل إننا قد نجد في واقع الحياة ظلمة وطغاة وهم قد لا يملكون قوت يومهم، وهذا الصنف الناقص من البشر الذي عادة ما يتعرض لاستحقار من قبل الطغاة الأكثر منهم مالا وسلطة، دائما ما يرى أن هناك أهمية كبيرة في تفريغ سخطه وغضبه على من لا يملكون لأنفسهم حيلة ولا تصريفا، فيجدون متنفسهم النفسي يكمن في صب جام غضبهم واستحقارهم علىأهل البساطة من البشر، وبالرغم من ذلك فإن هذا النوع من البشر يبقى دائما منهزماً ومنكسر النفس بسبب العقد التي يعيشها في نفسه، وبالتالي فهم أقرب إلى مزبلة التاريخ على الأقل في مسافة قصيرة من الدرك الأسفل لهذه المزبلة...!.

إن ما يستحث المرء إلى التطرق في الحديث عن مزبلة التاريخ، هو ما يراه من كثرة العبر وقلة من اعتبر، كثرة الطغاة الذين دخلوا اختيارا إلى هذه المزبلة وقلة اعتبارهم واعتبار البشر ممن يرون ظلمهم ويرون تبعات هذا الظلم ومنقلبهم، لاسيما في أيامنا هذه ونحن شهود!، فلا يمكن أن يمر جيل من الأجيال في هذه الدنيا إلا ويشهد بأم عينيه أشخاصاً قد استكملوا شروط الدخول لهذه المزبلة.

ومهما حاول المنكسرون نفسيا والمزدوجون في عواطفهم وانفعالاتهم تبرير ظلم الطغاة، فإن هذه التبريرات الواهية لن تجد نفعا أمام العفن المتجذر المنبثق من هؤلاء الطغاة، فمن الغريب جدا أن يرى المرء طاغية استكبر وتجبر، ثم نشهد في هذه الدنيا نهايته البشعة جزاء على ظلمه، ويبقى هناك من يبرر له ويحاول تغطية جرائمه...!

مهما يكن، فإن مزبلة التاريخ علمتنا أن عمر الظالم مهما طال، كان مقدار هذا العمر هو الزيادة له في الطغيان، وهذه الزيادة تقابلها ازدياد في سوء العاقبة والمنقلب الأخير، إن لم يكن في الدنيا، فهو بالتأكيد منقلب أسوأ وأذل في الآخرة...!

مزبلة التاريخ كانت ومازالت تنادي الطغاة على مدى التاريخ، وكلما دخل ظالم جديد لهذه المزبلة لعن الذي كان قبله، فالظلمة عرفوا ظلم من كان قبلهم لكنهم لم يعتبروا بذلك، بل زادهم طغيانا على طغيانهم، محاولة منهم للوصول إلى أقصى نوع من التمرد والطغيان على الإنسانية!، ومن حسن الحظ أن مزبلة التاريخ لم تمتلأ بعد، فالمكان فيها واسع ورحب، يسع الجميع، تدعو الطغاة في كل زمان ومكان... هل من مزيد؟.

خلاصة...!

نحن، من نعيش هذه اللحظة، لسنا بمعزل عن هذا الموضوع، فإننامخيرون اختيارا ليس فيه إجبار، بأن نحدد في أي صفحة من صفحات التاريخ يكون فيها ذكرنا، فكل فكرة أو عمل نقوم به مهما صغر أو كبر، كل ذلك من شأنه أن يخط لنا سطرا في إحدى الصفحتين، إما في صفحة المجد وطيب الأثر، أو في صفحة الإنحطاط وخساسة الذكر (مزبلة التاريخ)...!، فاختاروا ما شئتم.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي