قوس قزح / كوكب اليابان: الورقة الطائرة

| u062f. u0623u064au0645u0646 u0628u0643u0631 |
| د. أيمن بكر |
تصغير
تكبير
قبل السفر إلى اليابان قابلت زميلي أستاذ المسرح بالجامعة والذي أعرف أنه سافر إلى نصف دول العالم، سألته: هل زرت اليابان؟ فأجاب سريعا: طبعا. سألته وما انطباعك عنها، فأجاب بالسرعة نفسها Too perfect أي إنها مثالية أكثر من اللازم. لم أفهم تماما ملاحظة زميلي إلا بعد بضعة أيام في اليابان.

يمكنني الآن أن أردد ما قاله زميلي: اليابان مثالية أكثر من اللازم، أو ربما أكثر مما نطيق نحن. في أي مكان من المدن الثلاثة التي زرتها في اليابان يمكن لمن شاء أن يحرك رأسه في أي اتجاه وأتحداه أن يجد شيئا في غير مكانه. والأمر بسيط نظريا: هؤلاء قوم عرفوا كيف يستخدمون ما لديهم من مساحة وطبيعة ساحرة وموارد، وقبل ذلك من طاقة عقلية، في تنظيم الحياة لتكون كل تفاصيلها في خدمة الإنسان، وهم في ذلك يؤمنون بالنظام الذي يحافظ على التناغم بين كل مفردات الحياة بصدق، أي إن التزامهم بالنظام والقانون لا يأتي خوفا أو طمعا وإنما فهما لقيمة النظام والقانون. من زاوية أخرى لا توجد درجات في الالتزام بالقواعد العامة التي تنظم الحياة في المجال العام، فإما التزام أو لا. ولنأخذ النظافة على سبيل المثال.

في اليوم الخامس من رحلتي سألني صديق على «الفيس بوك»: اعطني نسبة مئوية لمستوى النظافة في اليابان». فقلت له مازحا: «120 في المئة... حاجة تقرف». لم أكن أمزح تماما فيما يخص النسبة المئوية. اليابانيون يفصلون القمامة من المنبع ليسهل إعادة تدويرها ككثير من الدول الغربية وكذلك كما هو الحال في دولة الإمارات العربية المتحدة. المهم أن الناس يلتزمون بذلك وبغيره من القواعد التي تجعل البيئة حولهم نظيفة تماما، هم يحافظون على النظافة ببساطة وليس خوفا من عقوبة، وإنما تفهما لقيمة ذلك في تسهيل حياتهم والحفاظ عليها، وكذلك في استغلال مواردهم. ولعل الحفاظ على النظافة ومحاربة التلوث هما السبب في أنني لم أشهد مطلقا في ثلاث مدن يابانية أي نوع من المخلفات على أرض الشارع ولا حتى بقايا السجائر. في مدينة هيروشيما لا يسمح بالتدخين في الشوارع، وستجد لافتات على الأرض تحذر من التدخين، وفي نهاية كل شارع ستجد عدة مقاعد محاطة بشجيرات صغيرة وفي وسطها منفضة سجائر ويافطة تقول: «هنا يمكنك التدخين».

المشهد الأبرز في مسألة الإيمان الداخلي بقيمة النظافة والالتزام بحماية المجال العام من التلوث حدث معي أثناء زيارة المعبد البوذي في مدينة كيوتو.

مدينة كيوتو هي العاصمة القديمة لليابان لما يزيد على ألف عام من 794 إلى 1868 م. تعد معابدها وقلعتها من المزارات السياحية المهمة لقيمتها التاريخية ولما يحيط بها من أماكن تسوق واسعة توفر للسياح فرصة لشراء التذكارات والطعام وغير ذلك. صادفت داخل المعبد البوذي ماكينة مكتوب عليها: ضع مائة «ين» وتعرف على حظك. دفعني الفضول للتجريب. لكن المشكلة أن حظي كان مكتوبا باللغة اليابانية. بعد الخروج من المعبد توجهت للمرشد السياحي المرافق لنا طالبا مساعدته في قراءة طالعي الياباني. كانت الورقة ملفوفة بعناية على قطعة كرتون مستطيلة لا تتجاوز عقلة الإصبع. تناول الشاب مني الورقة بكلتا يديه، وهو تقليد يدل على الاحترام، وأخذ يحاول فتحها، وفي أثناء ذلك وجدته يجري بصورة مفاجئة مبتعدا عني.

أصابني ذهول وظننت أن الشاب قد أصابه جنون مباغت أو أن طالعي يقول إنني شخص ملعون ويسبب اللعنة للآخرين. لكن بعد ثوان وجدته ينحني ويضع إصبعه على شيء في الأرض ثم يأخذه ويضعه في جيبه، عاد بعدها ليقرأ لي المكتوب في طالعي الذي أصبح مرعبا بالنسبة لي.

لم أكن ساعتها مهتما بورقة الحظ قدر اهتمامي بما فعله الشاب. سألته عن سبب جريه بهذه الطريقة، فأخرج من جيبه قطعة يصعب رؤيتها من الورق، موضحا أن هذه القطعة الورقية قد طارت أثناء فتحه لورقة الحظ، وكان عليه أن يأتي بها كي لا يتسخ المكان. لا تعليق.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي