لقد كان التعليم في الستينات وحتى نهاية الثمانينات من القرن الماضي أكثر انفتاحاً على التخطيط لأجل التوصل إلى تنمية عامة يستفاد مما هو متاح من موارد مالية. فالتكامل بين قطاعي التخطيط العام في الدولة والقطاع التعليمي في الثمانينات كان يهدف من بين ما يهدف أن يجعل «التعليم المهني» ركناً مهماً في مدارسه ومشاريعه استناداً على أن مستقبل التنمية المستدامة مرهون بمدى نجاح التعليم المهني في المدارس والجامعات، وأن أي مجتمع يسعى لبناء اقتصاد متين لا بد له أن يستثمر الطاقة البشرية المتاحة في اكتساب مهارات التعليم المهني أو التطبيقي الموجه لسوق العمل.
لهذا حاول القطاع التعليمي أن يفعّل هذا الهدف في وضع خطط وبرامج في مجال التعليم المهني بدءاً من التعليم الثانوي الذي شمل آنذاك الجانبين الأكاديمي والمهني الصناعي والتجاري من أجل إتاحة فرص اختيار أكبر للشباب للانخراط أما في سوق العمل أو الاستمرار في الدراسة لنيل شهادات في التعليم الجامعي. وللسير في هذا الطريق بدأت الدولة بإنشاء مدارس ثانوية شاملة ونظام مقررات كبدايات لهذا النوع من التعليم، وعلى أمل أن تتطور الممارسات والخطط مع تقدم الزمن. لكن ولأسباب عديدة ليس هنا المجال للخوض فيها لم تتحقق كل الأهداف، وحدث التغيير والتراجع فكانت العودة إلى التعليم الثانوي التقليدي الذي لاعلاقة له باحتياجات التنمية ولاحتى بالتعليم الجامعي التطبيقي الذي يعاني شتى المشكلات في وقتنا هذا منها عدم مواكبة أهدافه مع سوق العمل لأن غالبية الخريجين يعينون في الإدارة الحكومية.
اليوم يواجه التعليم الثانوي العام مشكلة انحسار البعد المهني والصناعي والذي تطبقه دول كثيرة في مدارسها الثانوية وبصور مختلفة إما عن طريق مدارس ثانوية صناعية ومهنية مستقلة وإما من خلال تطبيق «المنهج المندمج» الذي يدرس البرامج الأكاديمية والمهنية بهدف خلق أساس مهني وتقني عام لدى الطالب عند تخرجه من التعليم العام، تجعله قادراً على مواصلة دراسته الجامعية أو الانخراط في سوق العمل إذا كان لايرغب مواصلة الدراسة في الجامعة..
ومن المؤسف أن يوجه الشباب للتعليم المهني التطبيقي الجامعي من أجل العمل في الإدارة الحكومية بغض النظر عن مساوئها التي تتركز في قلة الاستفادة منها، وعدم استفادة التنمية من القوى العاملة المتخصصة في ميادين الحرف والصناعة. إن الدول لا تنهض اقتصادياً ما لم يساهم التعليم التطبيقي بدور فاعل في خلق تنمية بشرية تجعل الاقتصاد محور التقدم، فدول مثل سنغافورة، وماليزيا، وتايوان أمثلة حية وواقعية لكيفية استثمار التعليم المهني في تطور اقتصادياتها بعد أن كانت دول نامية وفقيرة..
إننا، رغم إمكانيتنا المادية لم نستفد كثيراً من التجارب الدولية في مجال تطبيق التعليم المهني في المدارس الثانوية، فما زلنا نخرّج الآلاف من الطلبة وفق سياق نمطي يتكرر كل عام وفي أوضاع ندرك أننا بعدم تغيير نظامنا التعليمي العام وإعادة هيكلة سوق العمل إنما نخلق بطالة لدى الشباب اما في شكل تسرب أو رسوب في التعليم أو بطالة حيث لاعمل، وإنما هدر لطاقات الشباب.
انطلاقاً من ذلك علينا ألا نتجاهل أن التعليم عامة، والتعليم المهني والتطبيقي خاصة، شأن عام لا يتوقف تطويره على مسؤوليات قطاع التعليم، وإنما يمثل سياسة دولة لابد من تطبيقها بحزمة من التشريعات، ووضع نظام يأخذ في الاعتبار اتجاهات التعليم وتأثيراته على مستقبل الدولة على أن تتعاون الحكومة والبرلمان بجعل التعليم المهني ركيزة وأولوية تحقق اقتصاديات بديلة في المستقبل تعتمد على القوى الشبابية. وهذا يعني إحداث نقلة نوعية في علاقة التعليم بسوق العمل وبالقطاع الخاص. أما الثقافة العامة وإن كانت إحدى أهداف التعليم فهي لاتسود في ظل عجز القوى البشرية عن العمل والأداء ومعاناتها من البطالة، أو الاستمرار في هدر الموارد المالية والتي هي نتاج اعتماد الاقتصاد على بيع النفط الذي ندرك أنه ناضب، ولن يؤّمن حياة كريمة للأجيال.
yaqub44@hotmail.com