مشاهد

أُنْسِي الحاج

u064au0648u0633u0641 u0627u0644u0642u0639u064au062f
يوسف القعيد
تصغير
تكبير
كنت أتصور أنها عادة مصرية، لكن اتضح لي بعد رحيل الشاعر والصحافي اللبناني أنسي الحاج، أنها توشك أن تكون عادة عربية أو إحدى عادات العالم الثالث، ألا وهي الانتظار إلى حين وفاة الكاتب، ثم تبدأ عمليات الاهتمام به والكتابة عنه والنبش في تفاصيل تفاصيل حياته، بل ربما تقديسه ومنحه من الصفات ما يفوق الوصف.

بالنسبة لمصر، كنت أقول دائما وأبدا إننا أحفاد من بنوا الأهرامات، ليقاوموا النسيان وليكافحوا الفناء، وليقولوا للدنيا كلها: كنا هنا ذات يوم، لذلك فإن تقديس الموت مسألة مهمة في العقل الجمعي المصري، أليس غريبا أن أهم كتاب في تراثنا القديم نقرأه: كتاب الموتى، في حين أن اسمه الحقيقي: الخروج إلى النهار، أو الطلوع إلى النهار في بعض ترجمات عنوانه.

بالنسبة لمصر، حتى لا يغضب مني الأشقاء والأصدقاء في لبنان، كنت أتصور أننا نحن الأحياء نسعد جدا عندما يموت أحدنا، نتعامل معه باعتباره قدم لنا أهم ما في دنياه وهو الحياة نفسها، وأننا استرحنا من منافسته لنا ومنافستنا له، ولذلك منحناه كل ما لم نمنحه له عندما كان بيننا في الحياة، أعرف أنها نظرة تآمرية خارجة من نظرية المؤامرة، لكنها التفسير الوحيد الذي كنت أتصور أنه يقف وراء تقديس الموتى عندنا في مصر، وهذا التقديس يصبح حالة من الهلع والهوس عندما يكون الميت فنانا أو كاتبا أو نجما من نجوم المجتمع.

رحل عن دنيانا أنسي الحاج اخيراً، عن 77 عاما، وأنا لديَّ من الشجاعة الأدبية ما يجعلني أعترف أنني لم أقرأ له شيئا، لا شعرا ولا نثرا، عرفت فقط بعد وفاته أن له ستة دواوين شعرية، كان أولها ديوان: لن، الصادر سنة 1960، وأنه أسس الملحق الثقافي لجريدة النهار، وتولاه، ثم رأس تحرير عدد من الصحف، كان آخرها جريدة الأخبار اللبنانية.

وأنا الآن في حيرة من أمري عن السبب في هذه الظاهرة، هل لعدم وصول دواوينه إلى القاهرة؟ رغم أني مازلت أذكر أن سلسلة آفاق عربية بالثقافة الجماهيرية نشرت مختارات لأنسي الحاج عندما كان مسؤولا عنها المرحوم إبراهيم أصلان، لقد سألت أكثر من مثقف بعد رحيل أنسي الحاج، فقال لي- بيني وبينه- وبعد أن أكد عليَّ أن هذا الكلام شديد الخصوصية، أنه لم يقرأ له شيئا.

ربما كان هذا موقف بعض المثقفين، لكني لا أعتقد أنه موقف الشعراء، فالرجل يعتبر من رواد الحداثة في كتابة قصيدة النثر، وساهم في تحرير مجلات صدرت للترويج لقصيدة النثر، وأسمع من الشعراء ـ خصوصا بعد رحيله عن عالمنا ـ أنه شاعر مهم، وله تجربة لها خصوصيتها وفرادتها، وأنه بعد رحيله عن عالمنا سيصبح من علامات قصيدة النثر في القرن العشرين. عموما أعترف بالتقصير، وأخجل منه، رغم انني اعتبرت أن إعلاني أني لن أقرأه مسألة لا تشعرني بخجل، وعموما بالنسبة للقراءة والاهتمام بنتاج هذا الشاعر أو ذاك وإهمال هذا الشاعر أو ذاك، لا توجد قاعدة ثابتة لها، وتقوم في أحوال كثيرة على الصدفة التي تشكل بعدا جوهريا من أبعاد حياتنا الراهنة.

عرفت بعد رحيله أنه زار مصر مرتين، وفي إحدى المرتين قابل صدفة عبدالحليم حافظ في محل جروبي، ولا أعرف في أي جروبي قابله؟ هل قابله في جروبي طلعت حرب؟ أم قابله في جروبي عدلي؟ أم تم اللقاء في جروبي مصر الجديدة المواجه لقصر الاتحادية، حيث مقر رئيس الجمهورية الآن؟ وأيضا لم نعرف ماذا جرى بينه وبين عبدالحليم حافظ في هذا اللقاء العابر. سواء في حياته أو بعد رحيله، ثمة إجماع على أمر أساسي عند الكلام عن أنسي الحاج، ألا وهو أنه كان يرفض بشكل قاطع ومانع وجامع الإدلاء بأي حديث صحافي سواء عن نفسه كشاعر أو كصحافي أو حتى كإنسان، والمفارقة هنا أن من يرفض الإدلاء بأي حديث صحافي كان صحافيا، ووصل لرئاسة تحرير صحيفة، وبالتالي فالرجل مغموس حتى أطراف أصابعه في العمل الصحافي.

والأحاديث الصحافية بالنسبة للشعراء والأدباء والإدلاء بها ليس عيبا ولا جريمة، والامتناع التام عنها ليس موقفا يمكن أن يحسب لهذا الممتنع أو ذاك، لأن الحديث الصحافي، خصوصا إن أجراه صحافي متخصص ونشر في جريدة لها قدر من التخصص أو ملحق يخص كتابة من يدلي بالحديث قد يكون مفيدا، وقد يقيم علاقة بين المبدع وقارئه، ربما لا تقوم هذه العلاقة عبر قراءة نصه الأدبي. من المؤكد أن الأحاديث التي أدلى بها نجيب محفوظ قبل نوبل وبعدها لا حصر لها، وقد قام أحد النقاد بحصر أحاديث نجيب محفوظ حتى ستينات القرن الماضي ونشرها في مجلدين في بيروت تحت عنوان: نجيب محفوظ يتحدث إليكم، والمجلدان يعكسان أحاديث نجيب محفوظ عندما لم تكن له أهمية إعلامية مثل التي كانت له بعد حصوله على نوبل سنة 1988، ولا أعتقد أن أحاديث نجيب محفوظ قللت من أهمية نتاجه الأدبي، ولا هزت هيبته ككاتب.

الروائي الألماني توماس مان- وبحسب كتاب إبراهيم العريس لغة الذات والحداثة الدائمة ـ صدر عنه اخيراً كتاب عنوانه: أسئلة وأجوبة، في هذا الكتاب 70 حديثا صحافيا اختيرت من أصل سبعمئة حديث أدلى بها توماس مان في حياته، وتوماس مان هو توماس مان، ومن المؤكد أن إدلاءه بسبعمئة حديث صحافي ربما كانت الأفضل من بين أحاديث أخرى كثيرة، فإن هذا لم يقلل من نتاجه الأدبي، ولا هيبته الشخصية،

لاحظت بعد رحيل أنسي الحاج اهتماما لبنانيًّا به فاق الوصف، وأنا لا أرى من الصحف التي تصدر من لبنان سوى جريدة الحياة، أقرؤها بشكل يومي، وإن كنت أتعامل معها باعتبارها جريدة مهاجرة تصدر من لندن، رغم أن إدارة تحريرها وطباعتها في بيروت الآن، يوم رحيله كتب رئيس تحرير الحياة غسان شيربل مقاله الافتتاحي عنه، وربما كانت المرة الأولى التي يخصص مقال افتتاحي في جريدة سياسية يومية لرثاء شاعر. داخل العدد صفحتان مخصصتان له، كتب فيهما أدونيس رسالة ثانية إلى أنسي الحاج، وكتب أيضا أمين معلوف وكتب معهما عبده وازن المحرر الثقافي لجريدة الحياة، وحنان الشيخ وخالدة سعيد وهاشم شفيق ومدير تحرير الحياة محمد علي فرحات، وأمجد ناصر وعيسى مخلوف وعبدالمنعم رمضان، ومعلوماتي أن مقال عبدالمنعم رمضان كان مكتوبا منذ فترة ولم يتم نشره إلا بعد رحيل أنسي الحاج، ويبدو أنه جرى اختصاره، لأن عبدالمنعم رمضان يكتب عادة مقالات المطولات.

كتب في الصفحتين عبدالقادر الجنابي، صلاح ستيتة، محمد بنيس، سيف الرحبي، رفعت سلام، وهي كلها أمور محمودة ومشكورة، وأحيي عليها جريدة الحياة، لكن ثمة إحساس داخلني ولم أستطع الهروب منه، ولم أكن أريد الكتابة عنه، ألا وهو قطرية الاهتمام بشاعر رحل عن بلادنا، كنت أتمنى لو وجدت كل هذه الكتابة في صحيفة غير لبنانية.

لكي أكون واضحا لن أملَّ من ترديد السؤال القديم: هل يستطيع أحد تحديد القطر العربي الذي ينتمي إليه المتنبي؟ أم أننا جميعا نقول عنه فقط انه شاعر عربي كبير؟، لن أصل لتصور يقول: كنت أتمنى اهتماما عربيا برحيل أنسي الحاج ونشر نتاجه الشعري حتى تتم قراءته بعد موت الشاعر وقراءة النص الشعري بمعزل عن مبدعه، بعد أن رحل عن عالمنا.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي