«انطفأ» أنسي الحاج ... شاعر الحداثة والصحافة

u0623u0646u0633u064a u0627u0644u062du0627u062c
أنسي الحاج
تصغير
تكبير
بيروت تودّع... بيروت، ومناراتها تنكّس العلامات المضيئة مع رحيل العلامات الفارقة. يكاد فائض العتمة الزاحفة ان يبتلع الماضي الجميل، ويكاد ان ينقشع الحاضر على مجرد خواء.

لم تمض ايام على رحيل الشاعر الفيروزي جوزف حرب حتى «استقال» الشاعر الذي لا يشبه سواه، انسي الحاج، واستلقى على غيمة معلنا موته كالمدينة التي تخسر روحها مع افول كل شمس.


انتهى زمن الـ «هورس شو» يوم لملم شارع الحمراء حكاياته مع «الثورة والثروة». اكلت التحولات المقهى والشارع، وها هي تأكل رواد الستينات الذين دشّنوا الحداثة بحبر دهمته الحرب، وبحريّة نحرت نفسها.

انسي الحاج «وليمة حبر وحرية» في شعر خارج على الشعر وفي نثر اكثر من نثر... غادر امس بعدما صارع كثيرا في القصائد والحياة، في الصحافة والترجمة، في اللغة وفي معانيها، صارع الى ان صرعه المرض عن 77 عاما.

أنسي الذي تعب «ولم يتحطّم»، كان في آخر ايامه «ينسج الحروف بألوان المغيب ويكتب الصمت بغيوم السفر» الذي حمله الى موت واعده منذ مدّة الى ان قبض عليه متخفيا في قصيدة من حبر أبيض.

الحاج الذي قال عنه أدونيس انه «الأنقى بيننا»، لم يكن على حقّ حين كتب في قصيدة «تحت غضب الحطب»: «لن يبكيني أحد». فخبر رحيله أبكى بيروت بصمت وخشوع.

أنسي الحاج لم يكن شاعرا عابرا، فهو أحد أعمدة قصيدة النثر والتحديث في فضاءات اللغة الدلالية واللغوية بدءا بديونه الأول «لن» الى «الرأس المقطوع» مرورا بـ«ماضي الأيام الآتية»، و«ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة»، «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع»، «الوليمة»، وصولا الى كتاب «كلمات كلمات كلمات» و«خواتم» وأنطولوجيا «الابد الطيّار» (بالفرنسية) وأنطولوجيا «الحب والذئب الحب وغيري» (بالألمانية مع الاصول العربية في برلين عام 1998).

الشاعر الراحل كان من رواد الصحافة الثقافية في العالم العربي وساهم العام 1957 مع يوسف الخال وأدونيس في تأسيس مجلة «شعر» وعام 1960 أصدر في منشوراتها ديوانه الأول «لن»، وهو أول مجموعة قصائد نثر في اللغة العربية، فضلا عن تأسيس القسم الثقافي المميز بجريدة «النهار» اللبنانية التي تولى رئاسة تحريرها من 1995 حتى سبتمبر 2003 حين استقال وانتقل الى جريدة «الأخبار» كاتبا لصفحتها الأخيرة مع كل سوم سبت.

هو من بلدة قيتولي، قضاء جزين، الجنوب. مولود في بيروت في السابع والعشرين من يوليو 1937. تلقى علومه في مدرسة الليسيه الفرنسية ثم في معهد الحكمة في بيروت. بدأ ينشر وهو على مقاعد الدراسة، مقالات وأبحاثا وقصصا قصيرة في مختلف المجلاّت الأدبية في منتصف الخمسينات، وكان على اهتمام خاص بالموسيقيين الكلاسيكيين. تزوج في العام 1957 من ليلى ضو، ورزق منها ندى ولويس. احتفظ بشعره ولم يبدأ بنشره الاّ في أواخر الخمسينات. بدأ العمل في الصحافة العام 1956 في جريدة «الحياة»، ثم في «النهار» مسؤولا عن القسم الثقافي، ابتداء من 9 مارس 1956.

في العام 1964 أصدر «الملحق» الأسبوعي لـ»النهار»، الذي ظل يصدر عشر سنين حاملا مقاله الاسبوعي «كلمات كلمات كلمات». مقالاته، بين «النهار» و«الملحق» ومجلات لبنان الأدبية، لا تحصى، جمع بعضها في ثلاثة مجلدات صدرت عن «دار النهار» في العام 1988 وأشرف على اصدار «النهار العربي والدولي» في بيروت.

مجموعته الشعرية الأولى، «لن» أثارت ما يشبه «الحرب الأدبية» التي شارك فيها الشعراء والكتاب من العالم العربي كله، وكانت حدا فاصلا في تاريخ الشعر العربي المعاصر. وفي نيسان 2007 صدرت أعماله الكاملة في ثلاثة مجلدات لدى «هيئة قصور الثقافة» في القاهرة.

في الستينات ساهم في اطلاق الحركة المسرحية الطليعية في لبنان من طريق الترجمة والاقتباس، وكانت ترجمته لمسرحية «كوميديا الأغلاط» لشكسبير بلغة حية ومتحركة (مسرحية) وفصحى، همزة وصل بين الجمهور والمسرح الجدي، قديمه وحديثه. لكن نجاح هذه اللغة، ظهر، أكثر ما ظهر، مع ترجمة لمسرحية «الملك يموت» لاوجين يونسكو في العام 1965. ترجم ايضا للفرق المسرحية اللبنانية (بعلبك - منير أبو دبس - برج فازليان - شكيب خوري - روجيه عساف - نضال الاشقر...) مسرحيات «العادلون» لكامو، «القاعدة والاستثناء» لبرشت، «احتفال لزنجي مقتول» لأرابال، «نبع القديسين»، «رومولوس الكبير» لدرونمات، و«الآنسة جوليا» لسترندبرغ.

الاّ أن أقوى اندفاعاته، على صعيد المشاركة في الحركات الفنية، ربما هي اندفاعته مع الأخوين رحباني، اللذين كان بدء معرفتهما الشخصية به في يونيو 1963، على اثر مقال كتبه عن فيروز، رافضا مبدأ المقارنة بين صوتها وبين أصوات مطربات أخريات، معتبرا أن في صوت فيروز، فوق الجمال والبراعة، «شيئا أكثر» كما سمّاه، هو العامل الغامض الذي لا يستطيع أحد له تفسيرا، والذي سيظل يحيّره، كما يظل كل «شيء أكثر» في الخليقة يحيّر العقل والتحليل. الواقع أن هذا المقال لم يكن الأول الذي كتبه أنسي الحاج عن فيروز. ففي العام 1956 كتب في مجلة «المجلة» مقالا عنها بعنوان «فيروز».

ترجمت له قصائد عديدة الى الفرنسية والانكليزية، واستوحى بعض المسرحيين قصائد له فأخرجوها (منهم يعقوب الشدراوي وريمون جبارة)، كما استوحى بعض الموسيقيين قصائد له في أعمال موسيقية.

وكثيرون من الرسامين اللبنانيين والعرب (بول غيراغوسيان، رفيق شرف، منير نجم، جان خليفة، وضاح فارس الخ...) اقترنت رسوم لهم بقصائد له.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي