خواطر تقرع الأجراس / الخفافيش

| u0645u0635u0637u0641u0649 u0633u0644u064au0645u0627u0646* |
| مصطفى سليمان* |
تصغير
تكبير
تناول كثير من الرسامين الساخرين المبدعين أوضاع ووسائل الحرامية في فن السرقة. ولم يخطر لهم أن يرسموا يوماً كاتباً أو ناقداً أو شاعراً... وهم يتفنّنون في اللصوصية الأدبية. ربما لأن وسائل هؤلاء عصيّة على التصوير الكاريكاتوري!

وقضية السرقات الأدبية قديمة حديثة متجددة ومستمرة. فشاعر الملاحم والأساطير، الإغريقي هوميروس، متهم بأنه أخذ في ملحمتيه الإلياذة والأوديسة كثيراً من أساطير المصريين في عصره مستبدلاً بالأسماء المصرية أسماء إغريقية. وقد وصف هيرودوت المؤرخ الإغريقي عمل هوميروس بأنه مجرد تنظيم ووضْع إطار للقصص وجمْعها. وهذا ما أثبته الباحث المصري عبد القادر حمزة، وما كشفه علماء الآثار والتاريخ المصري القديم.

وفي تراثنا النقدي فيض من الاتهام بالسرقات لكثير من الشعراء. وقد نال المتنبي، مالئ الدنيا وشاغل الناس، القسم الأوفى من هذه الاتهامات. أليست الأشجار المثمرة هي التي تُرمَى دائماً بالحجارة؟

يروي إبراهيم المازني أن العقاد أعاره قصة (تاييس) لأناتول فرانس، وبعد أيام عدة أعاره قصة (هايبيثيا) للكاتب الإنكليزي تشارلز كِنغزلي. وقد فهم المازني سبب الإعارة بفاصل زمني، وهو التأمل في التطابق الغريب بين الروايتين لكن الأغرب أن النقاد يتهمون المازني والعقاد بأنهما استوحيا كثيراً من أشعارهما من المجموعة الشعرية الإنكليزية الشهيرة (The Golden Treasure الكنز الذهبي)!

لماذا يُغِيْر شاعر عظيم على إبداع شاعر آخر؟ لماذا لا يعترف بأنه أُعجِب بقصيدة فلان وأراد كتابة قصيدة يستلهم معانيها بطريقته؟ ألم يقل الجاحظ إن المعاني مطروحة على قارعة الطريق وإنما العبرة في الصياغة؟

من ذلك مثلاً ما كشفه الباحث الأردني توفيق أبو الرب (مجلة العربي، الكويت، أيار- مايو، 1983) عمّا أخذه إيليا أبو ماضـــــي فـــي قصيدته الشهيرة (الطين) من شاعر بدوي مغمور اسمه علي الرميثي. والمـــوازنة طريفة.

قال الشاعر البدوي: يا خوي ما احنا فحمة ما بها سنى/ ولا أنت شمساً تلهب الدّو بضياه (والدَّو : الفلاة)

وقال أبو ماضي: يا أخي لا تمل بوجهك عني/ ما أنا فحمة ولا أنت فرقدْ

وقال البدوي: لصارْ ما تاكلْ ذهبْ يومْ تبلى/ يا خويْ وشْ نفْع الذهب لو تقناهْ؟

وقال أبو ماضي: أنت لا تأكل النضار إذا جعتَ/ ولا تشرب الجمان المنضَّدْ

وقال البدوي: كْليتْنا للتربْ نمشي ونحيا/ ولا توهم يا الضبعْ نفسكْ بمَشْهاهْ

وقال أبو ماضي: أنت مثلي من الثرى وإليه / فلماذا يا صاحبي التّيه والصدْ؟

والموازنة طويلة وممتعة... ومحيِّرة! فلماذا الإغارة؟ لماذا الصمت والتمويه والتعمية؟ ما العيب في التصريح باستلهام المعاني من شاعر آخر؟ العيب في القرصنة الخفيــــة الصامتة.

ويذكر أحمد زكي أبو شادي أن إيليا (سرق) قصيدة إنكليزية بعنوان: نخب الفارس وترجمها منظومة حرفياً بعنوان (هي) من دون أن يشير إلى ذلك، وهي منشورة في ديوانه على أنها من إبداعه!

وفي زحمة، بل متاهة الطبع والنشر الورقي، وبُعد المسافات الجغرافية، وندرة القراء، وبين دهاليز النشر الإلكتروني المعتمة، يتسلل قراصنة الفكروالشعر والأدب إلى كنوز الحروف المبدعة، ينهبونها، وينهشونها بأنيابهم الزرقاء.

هناك الآن وسائل إلكترونية كثيرة تسلّط الضوء الباهر على ظلام كهوف الخفافيش وتكشف عما خطفته في غفلة العتمة. لكنْ نتساءل: أين العقاب؟ قال جبران خليل جبران عن العدل البشري:

وقاتل الجسم مقتول بفعلته، وقاتل الروح لا تدري به البشرُ

فماذا كان سيقول عن قاتل الفكر، وسارق الإبداع؟

*كاتب سوري
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي