من خلال شخصيات افتراضية كـ «كواغد» و«حجي منخي» و... «ام حسام»

محاولات فردية في العراق لتحدي «التابوهات» السياسية والدينية

u0635u0627u0644u062d u0627u0644u062du0645u0631u0627u0646u064a
صالح الحمراني
تصغير
تكبير
مع اقتراب موعد الانتخابات التشريعية والمقرر إقامتها في ابريل المقبل، يراود بعض العراقيين القلق من أن تسفر نتائجها عن إحكام الإسلاميين قبضتهم على مقاعد البرلمان مجددا ومعه الحكومة؛ غير إن تلك المخاوف لم توقف مسعى جيل جديد من الكتاب الذين يعملون بجهد فردي خالص لإيقاف زحف تلك التيارات من خلال التأسيس والترويج لثقافة مدنية.

وهنا يأتي أسم الكاتب صالح الحمداني في مقدمة تلك المحاولات، إذ يسعى عبر حسّ صحافي ساخر إلى الترويج لمفهوم الدولة المدنية التي يتساوى فيها جميع العراقيين أمام سلطة القانون والدستور مهما اختلفت طوائفهم وأعراقهم وديانتهم. ورغم أن الكثير من الصحافيين الصاعدين يشاطرون الحمداني الغاية ذاتها، إلا إن أسلوبه الفُكاهي وقدرته على التواصل مع قراءه عبر وسائل الأعلام التقليدية والحديثة، تجعل الكفة بلا أدنى شك تميل لمصلحته.


ويحمل الحمداني الذي ولّد في قضاء سوق الشيوخ في مدينة الناصرية (جنوب العراق)، عام 1969، شهادة بكالوريوس في الأحياء من كلية التربية في «جامعة بغداد». ويمارس مهنة التدريس لمادة الأحياء في إحدى ثانويات البنين في كربلاء، والتي تُعتبر ثاني أهم قبلة للمسلمين الشيعة.

بدأ الحمداني مشواره مع الصحافة منذ زمن ليس بالبعيد، وبالتحديد بعد سقوط نظام حكم صدام حسين، حيث كتب لصحف محلية يومية مثل «الصباح» و»المدى»، فضلا عن موقع «كتابات» الالكتروني قبل أن ينتقل الى صحيفة «العالم» المستقلة التي اضطرت للتوقف عن الصدور لفترة وجيزة إثر مشاكل مالية قيل إن أطراف سياسية كانت وراءها.

ولتفادي أي توقف مشابه أو مقص رقيب، فضل مدرس الأحياء الاستعانة بجدران الـ«فيسبوك» مستثمرا شعبية الأخير بين العراقيين، حيث ذكر تقرير صدر حديثا عن «ميديا أرب إدفايزر» بأن 77 في المئة منهم يملكون حسابا مفعلا على الموقع الأزرق.

وكما في عموده اليومي في صحيفة «العالم»، فإن ما ينشره الحمداني على «فيسبوك» يأتي دوما في إطار حضّ القارئ والمتابع على التفكير خارج الصندوق، وبعيدا عن قيود الولاء للقبيلة أو الطائفة. فعلى سبيل المثال، لا يتردد الحمداني في عقد مقارنة متجردة بين مدينة إسرائيلية وأخرى عراقية، وهو أمر قد يبدو صادما لأتباع الخطين العروبي والإسلامي.

وبينما يكيل المديح لمدنية تل أبيب لإشاعتها بيئة ثقافية تحضّ على القراءة، يستغرب الحمداني من محاولة مدينة النجف، ذات الطابع الديني المحافظ، التنافس على لقب مدينة الثقافة العربية رغم إنها لا تمتلك مقومات ذلك «سوى بناية مكتبة قديمة وصغيرة»، حسب ما يقول.

الكاتب الشاب، عاد ليوجهه سهام نقده هذه المرة نحو السلطة الأعلى دينيا في العراق متمثلة بالمرجعية الشيعية في النجف، أخذا عليها عدم حضّها للسلطات أو مقلديها على ترشيد العطل الدينية التي ترافق مواكب زيارة الأضرحة والعتبات المقدسة في شهر محرم والتي عادة ما تؤدي الى تعطيل مصالح العمل الرسمية والخاصة لأيام.

وفي مناسبات عدة، يأتي حماس الحمداني لدولة مدنية علمانية متخفيا وراء وجوه شخصيات افتراضية من صنعه، عادة ما يحركها ضمن مشاهد كوميدية بلهجة عراقية تشي برمزية ذات مغزى. هذا الحماس يقابله تفاعل يُبديه قُراء الحمداني مع شخصياته الافتراضية التي ذاعت شهرتها مثل الخالة «كواغد» التي يعني أسمها باللهجة العراقية الدارجة الورق البالي أو المستخدم، وزوجها «حجي منخي».

إذ يُجسد الاثنان الطبقة البسيطة من عموم الناس، بالأخص تلك التي تقطن جنوب العراق حيث للأعراف والتقاليد العشائرية نفس سلطة الدين.

ويسعى الحمداني عبّر الحوار الذي يضعه لـ«منخي» و«كواغد» أن يصل بالقارئ إلى حد التماهي مع تلك الشخصيات وما تشعر به حيال الوضع في البلاد، فتأتي كلماته مقتنصة لتناقضات الشخصية العراقية بما تحمله من قيم قبلية وأخرى تتوق للمدنية.

في أحد المشاهد التي صاغها الحمداني، تحاول «كواغد» إقناع زوجها القروي بزيارة تبليسي عاصمة جورجيا، واحدة من الدول القليلة التي تمنح العراقيين هذه الأيام تأشيرة دخول سياحية دون تعقيدات. وعندما يسألها الحاج «منخي»: «لمَ تبليسي؟» تبدي «كواغد» رغبتها في تجربة لبس «البكيني» والاستمتاع بشمس الشاطئ من دون أن تنسى ذّكر كم هو زهيد سعر «البيرة».

«الحاج منخي» الذي فرجت أساريره عند ذّكر «البيرة» يُجسد قمة تناقض الشخصية العراقية عندما يبادرها بالسؤال عن مواعيد الصلاة في تبليسي.

في مشهد آخر ينقل حوار، جمع «الحاج منخي» وصديق له، ما يدور من همس في البيوت العراقية هذه الأيام فيما تتجنب السلطات والصحافة الحديث عنه، ألا وهو الغموض الذي يلف صحة الرئيس جلال طالباني الذي مضى أكثر من عام على إصابته بأزمة صحية أقعدته الفراش.

الحوار الذي صاغه الحمداني بفكاهته المعهودة يؤشر لعجز النخبة السياسية في التوصل الى بديل ينوب عن طالباني والخرق الدستوري الذي يشكله ابتعاد «فخامة الرئيس» كل هذه المدة عن القيام بمهامه الرسمية من دون مسوغ دستوري.

وتبقى «أم حسام» الشخصية الأكثر شعبية لدى قراء الحمداني لما تحمله من خصال افتراضية تداعب مخيلة كل رجل عراقي. إذ تتحلى المرأة الأربعينية، طبقا لوصف الحمداني، بجمال تحسدها عليه كل نساء الحيّ، حيث تقضي جل يومها في التزين والتبرج لزوجها الذي تعشق، ويجسده افتراضيا هنا الحمداني نفسه. وعلى عكس باقي شخصيات الحمداني، لا تحب زوجته الافتراضية الحديث في السياسة إلا ما ندر وتحت إصرار الزوج، لكن ذلك لا يعني أن تخلو كلمات الحب من بعض الرمزية الذكية. ففي شهر رمضان الفائت، ومع اشتداد موجة التظاهرات التي اجتاحت المدن المصرية ضد حكم «الإخوان»، ظهرت «أم حسام» في مشهد جديد مع الزوج الحبيب، لكن المفاجأة كانت في لهجتهما التي جاءت بالمصرية العامية، في إشارة أراد منها الكاتب الإشادة بمنجز الليبيراليين في مصر.

في العموم، تسعى حكايات «أم حسام» خصوصا تلك التي يخص بها جمهور الـ«فيسبوك» أن توفر محطة استراحة للقارئ عندما تلامس أحلامه البسيطة، بعيدا عن تخبصات السياسة وحمامات الدم التي تشهدها شوارع المدن في العراق.

وتحت ضغط محبي «كواغد» و«أم حسام» انشأ الحمداني مجموعتين (غروب) على الـ«فيسبوك» باسميهما، حيث يقوم بتحديث آخر مغامراتهما في شكل دوري يكاد يكون يوميا أحيانا إذا ما توفر الإلهام. كما تحظى صفحة الحمداني «الفيسبوكية» بمتابعة نحو 4000 مواطن رقمي.

ومن منظور تحليلي، فإن ما يقوم به هذا الكاتب الحكواتي عبّر أسلوبه السردي الفكاهي وشخصياته الافتراضية يقع ضمن إحدى نظريات التواصل الجماهيري التي تعرف بنظرية السرد (Narrative Theory) التي يقول صاحبها والتر فيشر، إن «أنجع طرق التواصل مع إي جمهور لإيصال فكرة أو رسالة معينة، هو أن تضعها في قالب قصصي لان الأفراد على وجه المطلق يستوعبون الفكرة ويقتنعون بها كلما جاءت بشكل قصة يتماشى مضمونها مع ما ألفوه حولهم».

ورغم صعوبة التنبؤ إن كان مسعى الحمداني للترويج لدولة مدنية سيؤتي أكله عندما يحين موعد الاقتراع في 30 ابريل المقبل، بيد إن الاهتمام والتفاعل الذي يحظى به على صفحات العالم الافتراضي وخارجها يؤشران على نجاحه في التأسيس لسمعته ككاتب صحافي لامع يتقدم صفوف الكثيرين ممن سبقوه في مجال كتابة الأعمدة الصحافية والنقد الاجتماعي الساخر. يبقى أن نقول إن وصفة نجاح الحمداني تظل مرهونة إلى حد كبير على جرأته في التطرق لمواضيع مهمة، كظاهرة الإسلام السياسي، من دون الانجرار وراء تيارات حزبية أو الانتساب إلى مؤسسات صحافية ذات أجندات مشبوهة وهو ما نجح في تجنبه حتى الآن.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي