بقلم الدكتور وليد صالح التنيب / قبل الجراحة
سيد بالصدفة
18 يناير 2014
12:00 ص
872


نعم إنها الصدفة، أو قل التوفيق أو دعاء الوالدين أو تساهيل من الله أو قضاء وقدر... أو قل ما تشاء، ولكن استمع إلى قصتي كيف أصبحت سيداً يا هذا.
إن أبي - رحمة الله عليه - رجل عصامي بنى نفسه بنفسه.
كان من أسرة بسيطة جداً، ولكن الحياة علّمته الكثير والكثير.
استطاع ان يبني نفسه بالعلم فقط، فقد درس فن العمارة والتصاميم الهندسية ونجح بتفوّق يشهد له الجميع.
لم يستطع بناء الكثير من العلاقات، لأنه سخّر وقته أثناء الدراسة للقراءة والتثقف فقط... هكذا علل لي أبي قلة عدد أصدقائه، وكان يؤمن دائماً أن كثرة عدد الأصدقاء ليست مقياساً وإنما المقياس الحقيقي هو مدى إخلاص الأصدقاء ومدى حبهم لك.
وكان رحمة الله عليه يذكر لنا دائماً كيف وقف أصدقاؤه معه أوقات الشدة، ويردد دائماً على مسامعنا في نهاية الحديث «رُبّ أخ لك لم تلده أمك»!
عمل في الوظيفة الحكومية فترة من الزمن أبدع خلالها... ولكنه العمل الحكومي، الإبداع ليس له أي مقياس عند الترقيات وتوزيع المناصب... هكذا قال لي أبي، أو هكذا برّر لي أبي رحمة الله عليه سبب استقالته من الحكومة والاتجاه للعمل الخاص او الاعمال الحرة.
ولكن لأكون صريحاً معكم، فقد غيّر رأيه أيضاً بعد فترة واقتنع بأن اسم العائلة مهم جداً أينما كنت في هذا الوطن المتخلّف أو المتحضّر كما قال أبي.
فأبي على قناعة تامة بأن توزيع المناصب تحكمه عوامل عدة، ليس من ضمنها الإبداع والإخلاص في العمل... كلام غريب، أليس كذلك؟!
دائماً يردد «توزيع المناصب» وينظر إلينا بنظرة صعب عليّ تفسيرها: هل تعني الرضا أم الاستهزاء بأننا لم نفهم ماذا يعني؟! تصوّر، يقول أبي إن مجرد استخدام كلمة توزيع يعني الكثير والكثير.
يدّعي أبي أن حتى العالم الأول به واسطة ورشاوى ومحسوبيات، وابن العائلة الكبيرة في الغالب له نصيب أكثر من غيره. رحمة الله عليك يا أبي كيف تفكّر.
ولأن أبي كان من أسرة بسيطة، فهو علّمني أن من يساعدك من العمال البسطاء يجب أن يرى المال قبل العمل، ويحبّ أبي أن يعطي البقشيش للعامل قبل أن يؤدي لأبي أي شيء.
يعتقد أبي أنك إذا أعطيت العامل البقشيش - وأنت من طبقة متوسطة - بعد أداء عمله، فسوف يؤدي عمله المطلوب منه فقط من دون إبداع أو احترام زائد لك، أما إذا أعطيته البقشيش قبل أداء العمل، فسوف يكرمك ويحاول أن يعلي من شأنك وسيعطيك أكثر مما تستحق أو أكثر مما أعطى غيرك. ولذلك، يعطي أبي البقشيش قبل العمل... رحمة الله عليك يا أبي، إما كنت مدرسة في الأخلاق... أو ترشي الناس وفي كلتا الحالتين أحبك ورحمة الله عليك.
لنعود إلى قصتي الآن...
فأنا لم أُبدع في الدراسة مثل أبي، ولم أستطع أن أدخل كلية علمية كالطب أو الهندسة كما كان أبي يمنّي نفسه عندما أدخلني إلى أفضل المدارس الخاصة وجعلني صديقاً لأبناء علية القوم.
فقد كانت قدراتي الدراسية محدودة مقارنة بمن معي من الطلاب، خصوصاً في المواد العلمية التي لم أستوعبها... إنها القدرات، وهي منحة من الله يطوّرها الإنسان للأحسن كما قال أبي.
نعم، لقد تعب أبي في العمل ليدخلني المدرسة الخاصة، وكنت أعلم أنه قد حرم نفسه وأمي من الكثير لكي يستثمر بدراستي أنا وإخواني وأخواتي، ولكنها القدرات يا من تقرأ حكايتي.
القدرات هي من أسس النجاح، والحمد لله أن أبي كان على درجة من الثقافة وليس الشهادة.
نعم، كان رحمة الله عليه مثقفاً ومقتنعاً بأن ليس كل شخص يجب أن يكون أولاده أطباء أو مهندسين أو محامين... وإن كنت أرى في عينيه شيئاً آخر!
ولكن كان يحب أن يراني أبذل المجهود المطلوب، وبعدها تحدد القدرات درجة النجاح من وجهة نظره.
حاول أبي بكل ما استطاع أن يجعل أحد أولاده أو بناته يدخل كلية الطب ليصبح طبيباً أو طبيبة مرموقة تساعد الناس كما كان يقول لنا... وكلّي قناعة بأنه كان يريد أن يقال عنه «أبو الطبيب» أو «أبو الطبيبة» وليس للمبادئ أي دور هنا، ولكننا نضحك على أنفسنا بما نقول ونحن نعلم أن الكل يعلم بما في أنفسنا.
أختي الصغرى كانت أذكانا على الإطلاق، وحاول أبي أن يستثمر هذا الذكاء ليحقق حلمه... أي أن يصبح «أبو الطبيبة».
ولكن حتى أختي، عندما «هلكت بالدراسة» وحصلت على نسبة، كانت في السنة التي تسبق تخرجها من الثانوية العامة تؤهلها للحصول على مقعد في كلية الطب، رفعت الإدارة الجامعية النسبة في سنة تخرجها بحجة قلة المقاعد المتوفرة هذه السنة، وكأننا في دولة بها العدد الكافي من الأطباء وليست هناك أي حاجة لابن وابنة البلد في هذا المجال...
والمضحك أن مقاعد التخصصات الأدبية تمت زيادتها!
وقال أبي كلمته التي أحفظها حتى الآن: «إن التخطيط في هذا البلد في يد أناس...»، للأسف لا أستطيع أن أخبركم ماذا قال وسأحتفظ بما قال أبي لنفسي.
حزن أبي لوقت من الزمن لما حصل لأختي الصغرى، ولكنه كان لديه من الصبر والحكمة ما جعله يتخطى الموقف بكل صلابة.
وللحق، كان لأمي الفضل الكبير في هذا الموقف، وأثبتت حكمتها وحسن تصرفها...
أمي وحكمتها وحسن التصرّف، هي قصة لوحدها سأسردها لكم في قصة أخرى إن شاء الله.
نعود الآن إلى قصتنا...
استطعت أن أبدع في اللغة الإنكليزية لأن أبي أدخلني مدرسة خاصة ودخلت كلية الآداب - لغة إنكليزية.
ولأن أبي مثلي الأعلى، فقد رفضت العمل بالحكومة واتجهت إلى العمل الخاص كمترجم عند شركة يملكها أحد أبناء الأثرياء في البلد.
لم يكن صاحب الشركة من الأذكياء أو المبدعين أو حتى المخلصين في العمل، وكانت الشركة تحصل على الكثير من المناقصات والمشاريع بسبب المحسوبية، ولأنها شركة ابن فلان.
وكانت تحصل على بعض المناقصات بالهدايا والرشاوى...
على الرغم من أن في البلد لجاناً للمراقبة ولجاناً للتدقيق وهيئات للشفافية... وسلطة رابعة.
ولأبي نظرة غريبة للسلطة الرابعة في بلدي لم أستطع فهمها حتى أصبحت سيداً.
كان لي أخوة وأخوات عدة، وأكبرنا استطاع أن يشقّ طريقه في كلية الهندسة وأصبح مهندساً معمارياً، وأخي الثاني الذي يصغرني بالسن أصبح مساعد مهندس إنشائي ولكن كنا نناديه «مهندس»، وهو أيضاً اقتنع ولبس الدور وأصبح «يزعل» إن ناديناه «مساعد مهندس».
وكلنا نحن... أخي المهندس وأخي مساعد المهندس... آسف آسف جداً، المهندس الثاني وأختي ورثنا شركة أبي.
الشركة التي أنشأها وسجلت بأسماء كل أولاده بعد مماته.
كانت شركة متوسطة الحال للإنشاءات والبنيان، استطاع أخواي أن يكونا المهندس والمقاول في الوقت نفسه...
أما أنا، فقد أخلصت في العمل وكلّي قناعة بأن أثبت خطأ أبي بأن توزيع المناصب لا يأتي بالإخلاص وإتقان العمل، ولكنني لم أنجح... رحمة الله عليك يا أبي، كنت مدرسة علّمتك الحياة، كم أحبك وأفتقدك يا أبي.
المهم لنرجع إلى قصتنا مرة أخرى، سيد بالصدفة...
في نهاية الأسبوع طلب مني صاحب الشركة أن أسافر معه وثلاثة من أصحاب الشركات الكبرى الأخرى إلى إحدى الدول الغنية والمشهورة بثراء تجارها وثروتهم الواضحة للكل وبقصورهم الفخمة والجميلة.
إذاً يجب عليّ السفر معهم للترجمة، لأنهم سيعقدون اجتماعات عمل ودراسة مناقصات والفوز بها مع عملاء مهمين جداً وأثرياء جداً كما وصفهم لي صاحب الشركة التي أعمل بها... يعني بالعربي الفصيح أرادوني مترجماً وسكرتيراً في الوقت نفسه... «الرخص زين باعتقادهم».
سافرنا... أنا درجة سياحية وهم درجة أولى.
عموماً، لحظتها كنت لا أعلم ما الدرجة الأولى ولا أعرف طعمها... المهم سفر وطيارة يا قارئي العزيز.
وصلنا إلى الدولة المعنية، وإذا باستقبالنا اثنان من عمّال القصر... يعملان عند الرجل الثري الذي نقصد مقابلته.
كانا في سيارة يصعب وصفها للفخامة والسعة... سيارة بُهر الجميع حتى صاحب الشركة وأصحابه بجمالها وفخامتها، بل قُل قصراً متحركاً. وهذا الوصف قاله ابن الثري صاحب الشركة التي أعمل بها، إذاً أنا ماذا يجب أن أقول؟ كيف لي أن أصف لك هذه السيارة؟!
ولأن أبي يعطي البقشيش قبل أداء الخدمة كما قلت لكم من قبل، فقد درست الموضوع مع نفسي...
آه، كم يجب أن أعطيهما «بقشيش»؟ أين أنت يا أبي الآن لتنصحني؟!
ولأني درست وفاوضت نفسي وعملت كل شيء معها لوحدي، فقد قلت لنفسي إن هؤلاء الأثرياء الذين معي أكيد سيكون بقشيشهم كبيراً جداً قد يصل إلى مئة دولار، فيجب أن أعطي كل واحد من المرافقين الاثنين خمسين دولاراً لكي لا يستهزئان بي!
وفعلاً، مددت يدي إلى حافظتي وأعطيت كل واحد منهما خمسين دولاراً، ولكن للأسف اكتشفت وأنا أعطيهم النقود أنني اعطيت كل واحد منهم مئة دولار وليس خمسين... يا تعاستي.
وقام الأثرياء الذين معي بإعطاء خمسة دولارات فقط لكل واحد منهما وأحدهم لم يعطِ بقشيشاً أبداً - يا بخلكم أيها الأغنياء.
المهم أنهما بدءا يعاملانني على أساس أنني سيد هؤلاء القوم الذين معي وأنهم هم تابعون لي، خصوصاً أنني كنت أتحدث اللغة الإنكليزية بطلاقة وهم ليسوا كذلك... بدأ استثمار أبي يظهر أخيراً.
عند وصولنا للقصر الذي يقيم فيه السيد، والذي سنقيم فيه نحن أيضاً، تم إعطائي جناحاً ملكياً يصعب عليّ وصفه وتم إعطاء الأربعة الباقين أجنحة عادية جداً وكأنهم يعملون عندي وليس العكس.
نسيت أن أذكر أن أحد الأشخاص الذين استقبلنا في المطار هو المسؤول عن القصر وله كلمة مسموعة فيه وعند سيد القصر.
المهم، عند المساء تمت دعوتنا للعشاء مع سيد القصر، وأيضاً تم تكريمي بالجلوس على الكرسي المحاذي لسيد القصر.
تعرفت على المساعد الشخصي لسيد القصر، وبسرعة علمت مدى حبّ سيد القصر له.
ولأبي حكمة أخرى، وهي حكمة كما قال أخذها من قراءته لحياة الأغنياء.
يقول أبي «إن أحد الأغنياء قال إنك إذا تبرعت بمال، فليكن بعملة حديدية وارمها بقوة عالياً ليراها ويسمع صوتها الجميع».
كيف أستثمر حكمة أبي الآن؟!
كان أبي يحبّ الساعات كثيراً ويحبّ اقتناء بعضها...
أهداني أبي ساعة «رولكس» عندما تخرجت من الجامعة...
إنك المنقذ دائماً يا أبي رحمة الله عليك.
أثناء العشاء، قمت بإهداء ساعتي «الرولكس» لمساعد سيد القصر أمام سيد القصر والجميع وقلت له بصوت مسموع إنني لم أحمل معي هدية تليق بمكانته عند سيد القصر وإنني أهديه هذه الساعة وعند زيارته لي سوف يلاقي الأفضل منها.
بدأ كل من في القصر يعاملني كأنني السيد ومن معي هم المساعدون لي... لا أخفي عليكم، أصبحنا كأننا في فيلم كوميدي بمعنى الكلمة، أو قل مسرحية كوميدية ليس هناك ما يحكمها من قواعد أو أسس، وكل أحداثها بالصدفة «العبيطة» أو التي يصعب تصديقها.
ياله من فيلم كوميدي جميل!
أحلى فيلم عشته في حياتي كنت أنا الكاتب والمعد والبطل والمخرج وأصبح كل المرافقين لي هم الكومبارس بدرجة مرتبة الشرف.
للحقيقة، حاول من معي من رجال الأعمال أن يشرحوا الحقيقة للجميع، ولكنها النقود والدولارات يا قرائي الأعزاء.
الآن فقط بدأت أستوعب ما كان أبي يردده لي وأخوتي بداية كل عام دراسي، الانطباع الأول هو الأهم دائماً ويصعب تغييره في أكثر الأحيان.
كان رحمة الله عليه يحرص على أن يكون أداؤنا أول أسابيع الدراسة ممتازاً قدر الإمكان.
حكمة كنت لا أحبها أبداً، فقد كنت قادماً للتو من إجازة كلها لعب ولهو وأحتاج لفترة من الزمن لأبدأ الدراسة.
انتهى العشاء وبدأنا نتحدث أنا وسيد القصر... حتى الآن لا أعلم لماذا يخصّني سيد القصر دائماً بالحديث... والحمد الله أن الحديث كان عن المشاريع الإنشائية التي كان أبي دائم الحديث عنها في البيت.
كان أبي يردد دائماً أن من أهم أسباب النجاح أن يتحدث الشخص دائماً بالعمل الذي يحب النجاح به.
كان معظم حديثه عن عمله وإنشاءاته والمصاعب وكيف وما هي الخطط الصحيحة من وجهة نظره طبعاً.
كان يتجنّب الحديث بالسياسة والتشكيلات الحكومية والانتخابات.
تصوّر، حتى الانتخابات كان أبي من وجهة نظري سلبياً للغاية ومن وجهة نظر أمي صائباً وصحيحاً.
كان رحمة الله عليه يقول إن الصوت أمانة وإنه لم يجد أياً من المرشحين من يستحق أن يثق به ليعطيه الأمانة!
بعد العشاء بدأت الحديث عن العمل والإنشاءات والمناقصات وبدأت أحاول أن أستغل الوضع لأخذ بعض المناقصات لشركة أبي التي ورثها أخوتي... نعم، لقد قررت أن أكون أسد اللقاء وفارسه.
لم أكن أريد أن أضيع الفرصة أبداً... إن الفرص يا صاحبي لا تأتي إلا نادراً، فإن لم تستغلها ضاعت عليك.
ولكنها فرصة، وأي فرصة!
لقد ذكرت لك يا قارئي العزيز أنني كنت أحاول أن احصل على بعض المناقصات للشركة التي أورثها أبي لنا، ولكن النتيجة أنني حصلت على كل المناقصات التي عرضت في هذا اليوم وأيضاً لا تستغرب إن قلت لك إن أبي له الفضل بعد الله.... كيف؟!
أثناء العشاء، كان المشروب أو الكحول متوفراً...
أبي سخّر وقته لنا ولتربيتنا وكان رحمة الله عليه من أفضل الآباء - كان يقول إن الأب مجرد جلوسه بالبيت مع أولاده يكفي حتى وإن لم يتكلم - كان رحمة الله عليه من الملتزمين بالبيت ومن أحلى الناس انتقاداً لنا...
لذلك، غرس فينا الأخلاق التي يحب أن نتحلى بها أنا وأخوتي.
كان يسخّر لنا معظم وقته.
تصوّر يا قارئي العزيز أنني كنت كل يوم أرى أبي وأجلس معه أنا وأخوتي.
لعب الخمر والكحول بعقول من معي حتى أصبحوا لا يعلمون ماذا يقولون وكيف يتصرفون...
لقد شربوا الكحول وطارت عقولهم معها.
تصوّر أن أحدهم أكد لصاحب القصر أنني أنا من أملك الشركات وأن شركاتي هي من أنجح الشركات.
كان سيد القصر يملك من الذكاء والحكمة الشيء الكثير.
وفي لحظة مفاجئة سألني عن أعمالي وشركاتي ومدى استعدادي لأخذ هذه المناقصات...
عندها قررت أن أحكي له الحكاية كلها التي سردتها لكم الآن.
نادى سيد القصر معاونه الأساسي وطلب منه أن يكون التعامل بين الشركة التي ورثناها من أبي أنا وأخوتي وشركاته بشكل مباشر...
وطلب مني بأدب جمّ وواضح أن أصطحب أصدقائي إلى غرفهم، فهم لا يعرفون أين غرفهم الآن، فقد أضاع الخمر عقولهم ومناقصاتهم.
ولكم أن تتخيّلوا بقية القصة.
وأقابلكم مرة أخرى لأرى إن كان خيالكم يطابق الواقع الذي حصل لي، خصوصاً لأحكي لكم قصة زواج ابني وقصة زواج ابنتي، وهي حكاية أثبتّ بها لأبي ولكل من يفكر مثل أبي رحمة الله عليه أن اسم العائلة هو الأساس، ليس له مكان عندي بعد اليوم.
إن أبي - رحمة الله عليه - رجل عصامي بنى نفسه بنفسه.
منذ يوم
منذ يوم
كان من أسرة بسيطة جداً، ولكن الحياة علّمته الكثير والكثير.
استطاع ان يبني نفسه بالعلم فقط، فقد درس فن العمارة والتصاميم الهندسية ونجح بتفوّق يشهد له الجميع.
لم يستطع بناء الكثير من العلاقات، لأنه سخّر وقته أثناء الدراسة للقراءة والتثقف فقط... هكذا علل لي أبي قلة عدد أصدقائه، وكان يؤمن دائماً أن كثرة عدد الأصدقاء ليست مقياساً وإنما المقياس الحقيقي هو مدى إخلاص الأصدقاء ومدى حبهم لك.
وكان رحمة الله عليه يذكر لنا دائماً كيف وقف أصدقاؤه معه أوقات الشدة، ويردد دائماً على مسامعنا في نهاية الحديث «رُبّ أخ لك لم تلده أمك»!
عمل في الوظيفة الحكومية فترة من الزمن أبدع خلالها... ولكنه العمل الحكومي، الإبداع ليس له أي مقياس عند الترقيات وتوزيع المناصب... هكذا قال لي أبي، أو هكذا برّر لي أبي رحمة الله عليه سبب استقالته من الحكومة والاتجاه للعمل الخاص او الاعمال الحرة.
ولكن لأكون صريحاً معكم، فقد غيّر رأيه أيضاً بعد فترة واقتنع بأن اسم العائلة مهم جداً أينما كنت في هذا الوطن المتخلّف أو المتحضّر كما قال أبي.
فأبي على قناعة تامة بأن توزيع المناصب تحكمه عوامل عدة، ليس من ضمنها الإبداع والإخلاص في العمل... كلام غريب، أليس كذلك؟!
دائماً يردد «توزيع المناصب» وينظر إلينا بنظرة صعب عليّ تفسيرها: هل تعني الرضا أم الاستهزاء بأننا لم نفهم ماذا يعني؟! تصوّر، يقول أبي إن مجرد استخدام كلمة توزيع يعني الكثير والكثير.
يدّعي أبي أن حتى العالم الأول به واسطة ورشاوى ومحسوبيات، وابن العائلة الكبيرة في الغالب له نصيب أكثر من غيره. رحمة الله عليك يا أبي كيف تفكّر.
ولأن أبي كان من أسرة بسيطة، فهو علّمني أن من يساعدك من العمال البسطاء يجب أن يرى المال قبل العمل، ويحبّ أبي أن يعطي البقشيش للعامل قبل أن يؤدي لأبي أي شيء.
يعتقد أبي أنك إذا أعطيت العامل البقشيش - وأنت من طبقة متوسطة - بعد أداء عمله، فسوف يؤدي عمله المطلوب منه فقط من دون إبداع أو احترام زائد لك، أما إذا أعطيته البقشيش قبل أداء العمل، فسوف يكرمك ويحاول أن يعلي من شأنك وسيعطيك أكثر مما تستحق أو أكثر مما أعطى غيرك. ولذلك، يعطي أبي البقشيش قبل العمل... رحمة الله عليك يا أبي، إما كنت مدرسة في الأخلاق... أو ترشي الناس وفي كلتا الحالتين أحبك ورحمة الله عليك.
لنعود إلى قصتي الآن...
فأنا لم أُبدع في الدراسة مثل أبي، ولم أستطع أن أدخل كلية علمية كالطب أو الهندسة كما كان أبي يمنّي نفسه عندما أدخلني إلى أفضل المدارس الخاصة وجعلني صديقاً لأبناء علية القوم.
فقد كانت قدراتي الدراسية محدودة مقارنة بمن معي من الطلاب، خصوصاً في المواد العلمية التي لم أستوعبها... إنها القدرات، وهي منحة من الله يطوّرها الإنسان للأحسن كما قال أبي.
نعم، لقد تعب أبي في العمل ليدخلني المدرسة الخاصة، وكنت أعلم أنه قد حرم نفسه وأمي من الكثير لكي يستثمر بدراستي أنا وإخواني وأخواتي، ولكنها القدرات يا من تقرأ حكايتي.
القدرات هي من أسس النجاح، والحمد لله أن أبي كان على درجة من الثقافة وليس الشهادة.
نعم، كان رحمة الله عليه مثقفاً ومقتنعاً بأن ليس كل شخص يجب أن يكون أولاده أطباء أو مهندسين أو محامين... وإن كنت أرى في عينيه شيئاً آخر!
ولكن كان يحب أن يراني أبذل المجهود المطلوب، وبعدها تحدد القدرات درجة النجاح من وجهة نظره.
حاول أبي بكل ما استطاع أن يجعل أحد أولاده أو بناته يدخل كلية الطب ليصبح طبيباً أو طبيبة مرموقة تساعد الناس كما كان يقول لنا... وكلّي قناعة بأنه كان يريد أن يقال عنه «أبو الطبيب» أو «أبو الطبيبة» وليس للمبادئ أي دور هنا، ولكننا نضحك على أنفسنا بما نقول ونحن نعلم أن الكل يعلم بما في أنفسنا.
أختي الصغرى كانت أذكانا على الإطلاق، وحاول أبي أن يستثمر هذا الذكاء ليحقق حلمه... أي أن يصبح «أبو الطبيبة».
ولكن حتى أختي، عندما «هلكت بالدراسة» وحصلت على نسبة، كانت في السنة التي تسبق تخرجها من الثانوية العامة تؤهلها للحصول على مقعد في كلية الطب، رفعت الإدارة الجامعية النسبة في سنة تخرجها بحجة قلة المقاعد المتوفرة هذه السنة، وكأننا في دولة بها العدد الكافي من الأطباء وليست هناك أي حاجة لابن وابنة البلد في هذا المجال...
والمضحك أن مقاعد التخصصات الأدبية تمت زيادتها!
وقال أبي كلمته التي أحفظها حتى الآن: «إن التخطيط في هذا البلد في يد أناس...»، للأسف لا أستطيع أن أخبركم ماذا قال وسأحتفظ بما قال أبي لنفسي.
حزن أبي لوقت من الزمن لما حصل لأختي الصغرى، ولكنه كان لديه من الصبر والحكمة ما جعله يتخطى الموقف بكل صلابة.
وللحق، كان لأمي الفضل الكبير في هذا الموقف، وأثبتت حكمتها وحسن تصرفها...
أمي وحكمتها وحسن التصرّف، هي قصة لوحدها سأسردها لكم في قصة أخرى إن شاء الله.
نعود الآن إلى قصتنا...
استطعت أن أبدع في اللغة الإنكليزية لأن أبي أدخلني مدرسة خاصة ودخلت كلية الآداب - لغة إنكليزية.
ولأن أبي مثلي الأعلى، فقد رفضت العمل بالحكومة واتجهت إلى العمل الخاص كمترجم عند شركة يملكها أحد أبناء الأثرياء في البلد.
لم يكن صاحب الشركة من الأذكياء أو المبدعين أو حتى المخلصين في العمل، وكانت الشركة تحصل على الكثير من المناقصات والمشاريع بسبب المحسوبية، ولأنها شركة ابن فلان.
وكانت تحصل على بعض المناقصات بالهدايا والرشاوى...
على الرغم من أن في البلد لجاناً للمراقبة ولجاناً للتدقيق وهيئات للشفافية... وسلطة رابعة.
ولأبي نظرة غريبة للسلطة الرابعة في بلدي لم أستطع فهمها حتى أصبحت سيداً.
كان لي أخوة وأخوات عدة، وأكبرنا استطاع أن يشقّ طريقه في كلية الهندسة وأصبح مهندساً معمارياً، وأخي الثاني الذي يصغرني بالسن أصبح مساعد مهندس إنشائي ولكن كنا نناديه «مهندس»، وهو أيضاً اقتنع ولبس الدور وأصبح «يزعل» إن ناديناه «مساعد مهندس».
وكلنا نحن... أخي المهندس وأخي مساعد المهندس... آسف آسف جداً، المهندس الثاني وأختي ورثنا شركة أبي.
الشركة التي أنشأها وسجلت بأسماء كل أولاده بعد مماته.
كانت شركة متوسطة الحال للإنشاءات والبنيان، استطاع أخواي أن يكونا المهندس والمقاول في الوقت نفسه...
أما أنا، فقد أخلصت في العمل وكلّي قناعة بأن أثبت خطأ أبي بأن توزيع المناصب لا يأتي بالإخلاص وإتقان العمل، ولكنني لم أنجح... رحمة الله عليك يا أبي، كنت مدرسة علّمتك الحياة، كم أحبك وأفتقدك يا أبي.
المهم لنرجع إلى قصتنا مرة أخرى، سيد بالصدفة...
في نهاية الأسبوع طلب مني صاحب الشركة أن أسافر معه وثلاثة من أصحاب الشركات الكبرى الأخرى إلى إحدى الدول الغنية والمشهورة بثراء تجارها وثروتهم الواضحة للكل وبقصورهم الفخمة والجميلة.
إذاً يجب عليّ السفر معهم للترجمة، لأنهم سيعقدون اجتماعات عمل ودراسة مناقصات والفوز بها مع عملاء مهمين جداً وأثرياء جداً كما وصفهم لي صاحب الشركة التي أعمل بها... يعني بالعربي الفصيح أرادوني مترجماً وسكرتيراً في الوقت نفسه... «الرخص زين باعتقادهم».
سافرنا... أنا درجة سياحية وهم درجة أولى.
عموماً، لحظتها كنت لا أعلم ما الدرجة الأولى ولا أعرف طعمها... المهم سفر وطيارة يا قارئي العزيز.
وصلنا إلى الدولة المعنية، وإذا باستقبالنا اثنان من عمّال القصر... يعملان عند الرجل الثري الذي نقصد مقابلته.
كانا في سيارة يصعب وصفها للفخامة والسعة... سيارة بُهر الجميع حتى صاحب الشركة وأصحابه بجمالها وفخامتها، بل قُل قصراً متحركاً. وهذا الوصف قاله ابن الثري صاحب الشركة التي أعمل بها، إذاً أنا ماذا يجب أن أقول؟ كيف لي أن أصف لك هذه السيارة؟!
ولأن أبي يعطي البقشيش قبل أداء الخدمة كما قلت لكم من قبل، فقد درست الموضوع مع نفسي...
آه، كم يجب أن أعطيهما «بقشيش»؟ أين أنت يا أبي الآن لتنصحني؟!
ولأني درست وفاوضت نفسي وعملت كل شيء معها لوحدي، فقد قلت لنفسي إن هؤلاء الأثرياء الذين معي أكيد سيكون بقشيشهم كبيراً جداً قد يصل إلى مئة دولار، فيجب أن أعطي كل واحد من المرافقين الاثنين خمسين دولاراً لكي لا يستهزئان بي!
وفعلاً، مددت يدي إلى حافظتي وأعطيت كل واحد منهما خمسين دولاراً، ولكن للأسف اكتشفت وأنا أعطيهم النقود أنني اعطيت كل واحد منهم مئة دولار وليس خمسين... يا تعاستي.
وقام الأثرياء الذين معي بإعطاء خمسة دولارات فقط لكل واحد منهما وأحدهم لم يعطِ بقشيشاً أبداً - يا بخلكم أيها الأغنياء.
المهم أنهما بدءا يعاملانني على أساس أنني سيد هؤلاء القوم الذين معي وأنهم هم تابعون لي، خصوصاً أنني كنت أتحدث اللغة الإنكليزية بطلاقة وهم ليسوا كذلك... بدأ استثمار أبي يظهر أخيراً.
عند وصولنا للقصر الذي يقيم فيه السيد، والذي سنقيم فيه نحن أيضاً، تم إعطائي جناحاً ملكياً يصعب عليّ وصفه وتم إعطاء الأربعة الباقين أجنحة عادية جداً وكأنهم يعملون عندي وليس العكس.
نسيت أن أذكر أن أحد الأشخاص الذين استقبلنا في المطار هو المسؤول عن القصر وله كلمة مسموعة فيه وعند سيد القصر.
المهم، عند المساء تمت دعوتنا للعشاء مع سيد القصر، وأيضاً تم تكريمي بالجلوس على الكرسي المحاذي لسيد القصر.
تعرفت على المساعد الشخصي لسيد القصر، وبسرعة علمت مدى حبّ سيد القصر له.
ولأبي حكمة أخرى، وهي حكمة كما قال أخذها من قراءته لحياة الأغنياء.
يقول أبي «إن أحد الأغنياء قال إنك إذا تبرعت بمال، فليكن بعملة حديدية وارمها بقوة عالياً ليراها ويسمع صوتها الجميع».
كيف أستثمر حكمة أبي الآن؟!
كان أبي يحبّ الساعات كثيراً ويحبّ اقتناء بعضها...
أهداني أبي ساعة «رولكس» عندما تخرجت من الجامعة...
إنك المنقذ دائماً يا أبي رحمة الله عليك.
أثناء العشاء، قمت بإهداء ساعتي «الرولكس» لمساعد سيد القصر أمام سيد القصر والجميع وقلت له بصوت مسموع إنني لم أحمل معي هدية تليق بمكانته عند سيد القصر وإنني أهديه هذه الساعة وعند زيارته لي سوف يلاقي الأفضل منها.
بدأ كل من في القصر يعاملني كأنني السيد ومن معي هم المساعدون لي... لا أخفي عليكم، أصبحنا كأننا في فيلم كوميدي بمعنى الكلمة، أو قل مسرحية كوميدية ليس هناك ما يحكمها من قواعد أو أسس، وكل أحداثها بالصدفة «العبيطة» أو التي يصعب تصديقها.
ياله من فيلم كوميدي جميل!
أحلى فيلم عشته في حياتي كنت أنا الكاتب والمعد والبطل والمخرج وأصبح كل المرافقين لي هم الكومبارس بدرجة مرتبة الشرف.
للحقيقة، حاول من معي من رجال الأعمال أن يشرحوا الحقيقة للجميع، ولكنها النقود والدولارات يا قرائي الأعزاء.
الآن فقط بدأت أستوعب ما كان أبي يردده لي وأخوتي بداية كل عام دراسي، الانطباع الأول هو الأهم دائماً ويصعب تغييره في أكثر الأحيان.
كان رحمة الله عليه يحرص على أن يكون أداؤنا أول أسابيع الدراسة ممتازاً قدر الإمكان.
حكمة كنت لا أحبها أبداً، فقد كنت قادماً للتو من إجازة كلها لعب ولهو وأحتاج لفترة من الزمن لأبدأ الدراسة.
انتهى العشاء وبدأنا نتحدث أنا وسيد القصر... حتى الآن لا أعلم لماذا يخصّني سيد القصر دائماً بالحديث... والحمد الله أن الحديث كان عن المشاريع الإنشائية التي كان أبي دائم الحديث عنها في البيت.
كان أبي يردد دائماً أن من أهم أسباب النجاح أن يتحدث الشخص دائماً بالعمل الذي يحب النجاح به.
كان معظم حديثه عن عمله وإنشاءاته والمصاعب وكيف وما هي الخطط الصحيحة من وجهة نظره طبعاً.
كان يتجنّب الحديث بالسياسة والتشكيلات الحكومية والانتخابات.
تصوّر، حتى الانتخابات كان أبي من وجهة نظري سلبياً للغاية ومن وجهة نظر أمي صائباً وصحيحاً.
كان رحمة الله عليه يقول إن الصوت أمانة وإنه لم يجد أياً من المرشحين من يستحق أن يثق به ليعطيه الأمانة!
بعد العشاء بدأت الحديث عن العمل والإنشاءات والمناقصات وبدأت أحاول أن أستغل الوضع لأخذ بعض المناقصات لشركة أبي التي ورثها أخوتي... نعم، لقد قررت أن أكون أسد اللقاء وفارسه.
لم أكن أريد أن أضيع الفرصة أبداً... إن الفرص يا صاحبي لا تأتي إلا نادراً، فإن لم تستغلها ضاعت عليك.
ولكنها فرصة، وأي فرصة!
لقد ذكرت لك يا قارئي العزيز أنني كنت أحاول أن احصل على بعض المناقصات للشركة التي أورثها أبي لنا، ولكن النتيجة أنني حصلت على كل المناقصات التي عرضت في هذا اليوم وأيضاً لا تستغرب إن قلت لك إن أبي له الفضل بعد الله.... كيف؟!
أثناء العشاء، كان المشروب أو الكحول متوفراً...
أبي سخّر وقته لنا ولتربيتنا وكان رحمة الله عليه من أفضل الآباء - كان يقول إن الأب مجرد جلوسه بالبيت مع أولاده يكفي حتى وإن لم يتكلم - كان رحمة الله عليه من الملتزمين بالبيت ومن أحلى الناس انتقاداً لنا...
لذلك، غرس فينا الأخلاق التي يحب أن نتحلى بها أنا وأخوتي.
كان يسخّر لنا معظم وقته.
تصوّر يا قارئي العزيز أنني كنت كل يوم أرى أبي وأجلس معه أنا وأخوتي.
لعب الخمر والكحول بعقول من معي حتى أصبحوا لا يعلمون ماذا يقولون وكيف يتصرفون...
لقد شربوا الكحول وطارت عقولهم معها.
تصوّر أن أحدهم أكد لصاحب القصر أنني أنا من أملك الشركات وأن شركاتي هي من أنجح الشركات.
كان سيد القصر يملك من الذكاء والحكمة الشيء الكثير.
وفي لحظة مفاجئة سألني عن أعمالي وشركاتي ومدى استعدادي لأخذ هذه المناقصات...
عندها قررت أن أحكي له الحكاية كلها التي سردتها لكم الآن.
نادى سيد القصر معاونه الأساسي وطلب منه أن يكون التعامل بين الشركة التي ورثناها من أبي أنا وأخوتي وشركاته بشكل مباشر...
وطلب مني بأدب جمّ وواضح أن أصطحب أصدقائي إلى غرفهم، فهم لا يعرفون أين غرفهم الآن، فقد أضاع الخمر عقولهم ومناقصاتهم.
ولكم أن تتخيّلوا بقية القصة.
وأقابلكم مرة أخرى لأرى إن كان خيالكم يطابق الواقع الذي حصل لي، خصوصاً لأحكي لكم قصة زواج ابني وقصة زواج ابنتي، وهي حكاية أثبتّ بها لأبي ولكل من يفكر مثل أبي رحمة الله عليه أن اسم العائلة هو الأساس، ليس له مكان عندي بعد اليوم.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي