خواطر تقرع الأجراس / الطبيعة بين العاشق والمعشوق

| u0645u0635u0637u0641u0649 u0633u0644u064au0645u0627u0646 |
| مصطفى سليمان |
تصغير
تكبير
«في البدء خلق الله السموات والأرض» أي الطبيعة الكونية من كواكب وأفلاك ومجرات ونجوم... والطبيعة الأرضية كما نعرفها ونعيش فيها وعليها. ثم خلق الإنسان. وكانت الطبيعة الأرضية من بين معبودات الإنسان. كانت إلهاً، حين ضل الإنسان طريق الفطرة الإلهية. هكذا حاول سيدنا إبراهيم عبادة الشمس والقمر. ثم تحول عنهما إلى الفطرة الإلهية. وعبدت الشعوب البدائية كثيراً من مظاهر الطبيعة الجامدة والحية. وعندما تعقدت الحضارة، خصوصا في المدن بعد الانقلاب الصناعي، حنَّ الإنسان إلى المعبود الطبيعي القديم. فكانت الطبيعة في الرومانسية– الإبداعية بشعرائها في الشرق والغرب أكبر وثن في معبد الفن. وصارت عالماً مجرداً مثالياً فلسفياً أكثر منها طبيعة مادية من غابات وسهول وأنهار ووديان.

ووصْفُ الطبيعة في شعرنا عبر جميع مراحله يعكس ذلك العشق والهيام والتقديس. ومن أروع هذا الشعر شعر المهجر (إيليا أبو ماضي وجبران، الذي تحمَم بعطر وتنشّف بنور، وميخائيل نعيمة ناسك الشخروب وجبل صنِّين...) حيث كانت الطبيعة في معبد الشعر ملجأ ومتنفساً فكرياً وفلسفياً وعاطفياً.

كان جان جاك روسّو من أكبر فلاسفة الا ندماج في الطبيعة. وكان تولستوي في شبابه يقدّسه ويحمل ميدالية عليها صورته، وكان يقول حين يقرأ كتابات روسّو إنه يشعر كأنه هو كاتبها. أما الأميركي هنري ثورو، فقد نفى نفسه إلى أحضان الطبيعة، وعاش في منفاه القسري مدة يتعبّد في محرابها. وكان ينظر إليها وفق النظرية الإحيائية التي ينظر بها البدائيُّ إلى الطبيعة كائناً حياً. كما يفعل الأطفال مع ألعابهم فيناغونها ويداعبونها على أنها كائن حي مثلهم. يقول ثورو: «ليست الأرض التي أدوسها هامدة ميتة. هي جسم وروح. هي أم البشرية...». وهذا يذكرنا بأبي العلاء في قوله:

خفّفِ الوطْ ءَ ماأظنّ أديمَ اللأرض إلّا من هذه الأجسادِ

سرْ إنِ اسْطَعتَ في الهواء رويداً لا اختيالاً على رفات العبادِ

وأيضاً هي نظرة عمر الخيّام في رباعياته. حيث يرى كل طين طبيعي نمشي عليه، أو طين مصنوع ٍ نستخدمه كأدوات، هي أحداق وأجفان وخدود العذارى.

ومن بين الفلاسفة الذين حاولوا تفسير نشوء الأديان السماوية في الشرق (إرنست رينان) الذي عزا ذلك إلى طبيعة الصفاء والصمت المطبِق والامتداد اللانهائي في سماء الشرق. فاتجه الإنسان الشرقي إلى السماء يناجي نجومها، ويقرأ أسرارها. حتى أناشيد إخناتون التوحيدية يمكن أن نضعها في هذا السياق حين توجّه إخناتون إلى الشمس (آتون) في صحراء مصر.

لذلك يتوجّه الخليجيون صيفاً إلى الصحراء ويخيّمون هناك أياماً، و يعودون في أعماقهم، من دون أن يدروا، إلى بداية عبادة (عشق) الطبيعة، طبعاً ليس بالفهوم الديني لكن الفلسفي والنفسي والوجداني، بحسب نظرية اللاشعور الجمعي الموروث عند ألفْرِد أدْلِرْ المنشق عن فْرويد بنظريته عن اللاشعور الفردي.

مَن منا يقرأ النجوم ويناجيها في ليالي المدن (المعتمة بأنوارها)؟! هل ترى سماء الخليج ليلاً صافية بنجوم لامعة ساطعة؟ اذهبْ إلى ليل صحراء الخليج وعش هناك سحر الصفاء، والبريق الماسي على مخمل السماء.

أّتذكَّرالآن أول مرة سافرت فيها براً من الكويت إلى سورية. فقد توقفتُ بعد منتصف الليل في الصحراء المترامية الأطراف، وشعرت بطنين الصمت في أعماقي، وأخذتني روعة السماء بنجومها النابضة بألماس الليل. شعرت برهبة لا توصف. وانثالت في وجداني كل الخواطرالتي أكتبها الآن.

نحن عشاق الطبيعة بلا عشق. فمعشوقتنا منسية. حضارة المدينة لا عشق فيها لأن نجومها أضواء اصطناعية وطبيعتها الخضراء مضرَّجة بالدماء. و(أحشاؤها نحاسية) كما وصف أمين الريحاني نيويورك. نحن دُمَىً صناعية. أشلاء حروب، ونزاعات، وانقسامات... نقتل فيها العاشق... والمعشوق.

*كاتب سوري
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي