رؤى / هذا... وإلا!


الصباح الطري هادئ النسيم فاتن الوداعة... جرى ببصره الحاد على الأفق الممتد، كأنما يقول له إنه ليس فيك ما يستعصي على جناحي... الفضاء لا ينتهي إلا حيث يتعانق مع الأفق الذي يسكب ألوانه الفاتنة على صفحة البحر الواسعة، ليصنعا معاً محارة مفتوحة هائلة التلاوين... أخذته هزة فرح، كأنما خلق له الله المنظر كما يشاء. راح يعُبّ النسائم الطرية ويتأمل امتداد جناحيه... شيئاً ما، استرخت مخالبه الحديدية في موجة النشوة المتأملة، حانت للثعلب الفريسة لحظة مناسبة للإفلات زينتها له حِيَلهُ الماكرة، وأغرته بها بقية من أنفاس مرهَقة لم تزل فيه... طعنة نافذة خرجت من جنبه إلى جنبهِ... بدأ الإفطار الملكي الشهي بأول قطعة من اللحم الحار الذي لم يزل يختلج... لم يكد يتبقى من الثعلب إلا ما يصلح لغير الملك، ثقة الملك بنفسه وإحساسه بجبروت قوته تجاوزت كل الحدود... نظر في أعطافه بالخيلاء كلها، وراح ينظر على أطراف مخالبه ناصباً صدره للريح كأنما يتأهب للإقلاع. بدا له أن يبسط ريش جناحيه للشمس الجديدة، فبرقت مادته الزيتية تعكس طيوف التلاوين... راح يسكر من خمرة الصباح الملكية.
حط عصفور «الفتَّاح» على مسافة مناسبة بين رأس الملك وطرف جناحه البعيد... حيّاه بما يوافق جلال الملك وهيبة الجبابرة.
كيف تجرؤ على الوقوع في هذا المكان؟ أوما علمت بأنني سيد الكواسر وملك الجو، وأن لكل ملك حمىً؟
أجل يا مولاي النسر العظيم، وما إلا الخير أردت إن شاء الله!
وأي خير يكون عند أمثالك من بغاث الطير، لملِكٍ مثلي... هات ما عندك باختصار...
ولي الأمان؟
هاتِ... هوَ لك!!
لقد رأيتك سيدي، في فتنتك الطاغية وقوتك الجبارة، ورأيت خيلاءك حين تنظر في عطفيك وتُصَعِّرُ خديك في مرآة الوجود. رأيتُ ذلك فرأيتُ معنًى مُهِماً، أحببت أن أكاشفكَ به كي أكون أميناً مع سيدي ومع نفسي، ثم ليس يبعد أن يجد مثلك بعض ما ينتفع به عند مثلي من ضعاف المخلوقات، فالنصيحة فريضة واجبة.
ما أراك إلا أصبتنى بالملل وأنا لم أفرُغْ بعد من أصبوحتي... قل وخلصنى!
زاد الله مولاي الملك من بسطة النعمة وثبَّت سلطانهُ في مملكةِ الطير!
أترى سلطاني أيها الأبله على مملكة الطير وحدها؟ أم ترى أن هذا الثعلب من الطيور؟
عفواً مولاي عفواً... كنتُ أمام ما أردتَ... غير أني كدت من الخوف أن ألفظ آخر أنفاسي!
قل... وإلا خمشتك خمشةً تكون آخر عهدك بالحياة!
(الفتاح في نفسه): يا لطيف...! أنت خير حافظاً وأنت أرحم الراحمين!
لقد أحببت سيدي أن... أنْ!
لا وقت للحب ولا... للأنأنة... أوشكُ أن أقتلك... قل ما عندك!!
أعلم يا مولاىَ المعظم أن الله سبحانه قد بسط لك من أسباب النعمة والذكاء ما علمنا منه وما لم نعلم... غير أن هذا السر الذى أريد أن أقوله لمولاىَ هو مفتاح النعمة وسبب بقائها الدائم... وهو...
انطق ودعني من هذه الثرثرة والمواعظ المكررة.
سر مهم يا سيدي أراه غاب...
أوشك أن أحيل جسدك النحيل مأساة يتعظ بها أمثالك!
أق... أق... أقصد يا مولاي... أن التواضع لله سبحانه، هو الذي يديم نعمه على مخلوقاته، وأن الاستعلاء والزهو يعني نسيان المنعم والانخداع بالنعمة، وتلك أ ُولىَ المطارق التي تحطم الملك، فمازال سلطانٌ عن ملك، إلا بسبب من هذا أو ما يشابهه! فأنت ترى إذاً، أنني غير جدير لأن أكون ملكاً أبسط سلطاني على هذه الأجواء والأنواء... كأنك عميت عن هذه الأجنحة العملاقة التي لايتمتع بمثلها أحد في هذا الفضاء السحيق؟؟ هِيهْ... أليس كذلك؟
نعم... نعم سيدي، لا كنت إن جهلتُ ذلك!! غير أني أردت أن...
أترى بعدُ أنني سأبقيك حتى تنطق كلمةً أو تريد؟ ومع ذلك! هات ما عندك، فربما تؤخذ الحكمة من أفواه المجانين!
سيدي... الاعتراف بنعمة المنعم والتواضع له، هو الأساس الذي لا يمكن أن يقوم بغيره سلطان أوتبنى على غيره ممالك، فإذا غاب التواضع عن شخصٍ أو عن مؤسسةٍ أصبحت ضخامة البناء وارتفاعه هي أول أسباب انهياره... صح يا سيدي؟ لا صح لي عزمٌ إن أعتقتك يا نذير الشؤم... اقترب فقد حان أجلك!
غاضت الأضواء والدماء فى عروق الفتاح وفى عينيه... انهار المسكين إلى حجر صغير في الصخرة التي يقف عليها في مواجهة الملك الغضبان- الثقب وراءهُ طويل غائر... سقط العصفور مغشياً عليه فتدحرج داخل الثقب وأطبق الصمت... استعصى على النسر أن يدخل رأسه الكبير في الثقب وراء العصفور، كأنما هو مغارة صنعتها الأقدار لهذه الحادثة في الأزمان الجيولوجية الغابرة... أفاق «الفتاح» على حُمْرَةِ الأصيل فإذا المكان يلفه الصمت وقد ذهب النسر... انطلق يطوي الخوف والفضاء حتى انتهى إلى باب سليمان النبي صلى الله عليه، فأنهى إليه ما كان من أمره مع النسر، وكيف إنه سخر من النصيحة ورآى أنه حر في أفكاره!
هدأ سليمان من روع العصفور فعادت إليه سكينته، فسأل النبي:
أترى يا مولاي أنه محق فيما يزعم؟
أيها العصفور الطيب! في الدين حرية أفكار، ولكن ليس فيه حرية أخلاق! فلو أن هذا الملك المغرور أدرك حدود الأخلاق، لأدرك حدود الأفكار، ولعرف أن أخلاق المسلم تمنعه من تجاوز حدوده مع الناس فضلاً عن رب الناس، وهنا يعرف النعمة وحقوق واهبها ويعرف حدود تفكيره فيه،ومن ثم فلا يكون هذا الاستكبارُ الذي رأيت! اذهب إليه إذا كان الصباح، وسوف تجده في الموضع الذي علمت.
أنا؟... أنا أذهب إليه؟... أعوذ برب الناس... لقد كاد يطحنني لولا أن الله سلم!
هل ترى أن الله سيتخلى عنك؟
حاشا لله يا نبيّ الله!
اذهب إليه برسالتي هذه ففيها كلمة واحدة...» تواضع... وإلا»... هذا أمر النبي سليمان ملك الإنس والجن والطير!
ركب العصفور الريح حتى وقف على صخرة قرب الملك النسر... فأنهى إليه رسالة سليمان.
وإلا ماذا؟ ماذا يمكن أن يفعل بي سليمان؟
سوف يُرسِل عليك « الفِكْر»!
«الفكر»؟... وما «الفكر»؟
ستأتيكَ أنباؤه بعد حين... أما أنا فعائد إلى سيدي الملك نبي الله...!
شرد النسر ساعة يقلب الأمر، ويسأل عن هذا الذي يهدده به سليمان فالأنبياء كلهم صادقون لا محالة... « الفكر»... ما هو؟ ما شكله؟ ما لونه؟ من أين يهب؟ وماذا بعد؟ وكيف؟ لم يهتد إلى جواب... لا بد إذن من الاحتياط وإعلان الطوارئ، فالخطر مفتوح على كل الاحتمالات... قد ينقضّ من السماء كالصاعقة، وقد ينفجر من الأرض كالبركان، وقد يتفجر من الخوف كالطواعين!
أخذه من الهم ما الله به عليم، شعر لأول مرة بالعجز كأنما أحيط به، فالاحتمالات الخطرة أوسع من أن يتصورها... سلطان سليمان أوسع من قدرة جناحيه على التحليق، أومن قدرة مخالبه على الفتك!
ضربته أمواج الشك... قرر أن يتجنب معارك الصيد، فربما كان مقتله في جراحة بسيطة... لم يفلح صيد البغاث في ملء معدته الخاوية... أصابه الذبول والضعف... خاف أن يجيء الخطر ملتفاً بالرياح والعواصف... قرر أن يلزم الوكر... ضغطه القلق فأصبح ينتفض للهمس... يطرد النوم عن عينيه بالتقافز والغناء المهزوم... ضربه الهزال والثقل... جرب جناحيه فصعب عليه حملهما... بدا مهزوم الدفاع عاجزاً عن الإقلاع... ماذا لو وقع خطر مباغت؟ ابيضت عيناه من الحزن... فهولا يسمع خفق جناح ولا دبيب حشرة إلا اتخذ وضع القتال المفزوع... لا يكاد يخرج من الوكر حتى يتقهقر إليه!
تكسر ريشه وسقطت مخالبه وانهزمت منه هامة لا تعرف الانحناء... راح يهذي كالمحموم باسم عصفور «الفتاح» الذي حمل إليه كتاب «سليمان»... انتهى به الانتظار إلى قلق لا يعرف الانتظار! سمع حفيف بساط الريح يهبط على مقربة من وكره... لم يسعفه بصره... جاءه صوت النبي الملك: السلام على من كان ملكاً للكواسر! ما بالك أيها العظيم المتهالك؟ مالي أرى أطلال مملكة ضعفت عن خشاش الأرض وبغاث الطير؟ لقد هلكت يا نبي الله وأنا أدافع «الفكر» الذي أخبرني به « الفتـّاح «!! ليس هناك شيء اسمه «الفكر»، لقد رماني العصفور الملعون بهذا الوسواس فكان من همى وغمي ما ترى!!
أيها الملك البائس –ليس «الفكر» إلا ما أنت فيه! لقد أهلكت نفسك بالتفكير في «الفكر»، وهذا حسْبُ أمثالك من عقاب السماء- تخلى بك غرورُك وعِزُّ سلطانك عن خوف الله، فملأ الله قلبك بالفزع من كل شيء، ولو خفت الله وحده في نفسك وفى خلقه، لكانت لك الهيبة التي تؤمنك من كل شيء، لا تحلمْ من الآن براحة البال، فإن الخوف من المستقبل، والحياة في مزرعة الوساوس، قدر مكتوب عليك، وهم لا يجتمعان مع السكينة و راحة البال!
أستحلفك يا نبي الله، بالذي سخر لك الجن والإنس والطير فهم يوزعون، ألا سامحتني ونصحتني!
آه... الآن تؤمن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين... ومع ذلك... لا تثريب عليك، لقد استعذت بالغفور الودود... يغفر الله لك!
الآن فأعد قراءة الرسالة التي ألقاها إليك «الفتاح»، ثم خذ ما جاء فيها بقوة إنها وصفةٌ إلهية عليا لعباده، وبها يُديم عليهم نعمة الأمن والسلام والسكينة!
ستسمع عني يا نبي الله ما يسرك... فاسمح لى بأن أعتذر لأخى «الفتاح» فقد كان على حق!
وسترى إن شاء الله من الكرامة ومن حب الخلق فوق ما يسرُّك!
حط عصفور «الفتَّاح» على مسافة مناسبة بين رأس الملك وطرف جناحه البعيد... حيّاه بما يوافق جلال الملك وهيبة الجبابرة.
كيف تجرؤ على الوقوع في هذا المكان؟ أوما علمت بأنني سيد الكواسر وملك الجو، وأن لكل ملك حمىً؟
أجل يا مولاي النسر العظيم، وما إلا الخير أردت إن شاء الله!
وأي خير يكون عند أمثالك من بغاث الطير، لملِكٍ مثلي... هات ما عندك باختصار...
ولي الأمان؟
هاتِ... هوَ لك!!
لقد رأيتك سيدي، في فتنتك الطاغية وقوتك الجبارة، ورأيت خيلاءك حين تنظر في عطفيك وتُصَعِّرُ خديك في مرآة الوجود. رأيتُ ذلك فرأيتُ معنًى مُهِماً، أحببت أن أكاشفكَ به كي أكون أميناً مع سيدي ومع نفسي، ثم ليس يبعد أن يجد مثلك بعض ما ينتفع به عند مثلي من ضعاف المخلوقات، فالنصيحة فريضة واجبة.
ما أراك إلا أصبتنى بالملل وأنا لم أفرُغْ بعد من أصبوحتي... قل وخلصنى!
زاد الله مولاي الملك من بسطة النعمة وثبَّت سلطانهُ في مملكةِ الطير!
أترى سلطاني أيها الأبله على مملكة الطير وحدها؟ أم ترى أن هذا الثعلب من الطيور؟
عفواً مولاي عفواً... كنتُ أمام ما أردتَ... غير أني كدت من الخوف أن ألفظ آخر أنفاسي!
قل... وإلا خمشتك خمشةً تكون آخر عهدك بالحياة!
(الفتاح في نفسه): يا لطيف...! أنت خير حافظاً وأنت أرحم الراحمين!
لقد أحببت سيدي أن... أنْ!
لا وقت للحب ولا... للأنأنة... أوشكُ أن أقتلك... قل ما عندك!!
أعلم يا مولاىَ المعظم أن الله سبحانه قد بسط لك من أسباب النعمة والذكاء ما علمنا منه وما لم نعلم... غير أن هذا السر الذى أريد أن أقوله لمولاىَ هو مفتاح النعمة وسبب بقائها الدائم... وهو...
انطق ودعني من هذه الثرثرة والمواعظ المكررة.
سر مهم يا سيدي أراه غاب...
أوشك أن أحيل جسدك النحيل مأساة يتعظ بها أمثالك!
أق... أق... أقصد يا مولاي... أن التواضع لله سبحانه، هو الذي يديم نعمه على مخلوقاته، وأن الاستعلاء والزهو يعني نسيان المنعم والانخداع بالنعمة، وتلك أ ُولىَ المطارق التي تحطم الملك، فمازال سلطانٌ عن ملك، إلا بسبب من هذا أو ما يشابهه! فأنت ترى إذاً، أنني غير جدير لأن أكون ملكاً أبسط سلطاني على هذه الأجواء والأنواء... كأنك عميت عن هذه الأجنحة العملاقة التي لايتمتع بمثلها أحد في هذا الفضاء السحيق؟؟ هِيهْ... أليس كذلك؟
نعم... نعم سيدي، لا كنت إن جهلتُ ذلك!! غير أني أردت أن...
أترى بعدُ أنني سأبقيك حتى تنطق كلمةً أو تريد؟ ومع ذلك! هات ما عندك، فربما تؤخذ الحكمة من أفواه المجانين!
سيدي... الاعتراف بنعمة المنعم والتواضع له، هو الأساس الذي لا يمكن أن يقوم بغيره سلطان أوتبنى على غيره ممالك، فإذا غاب التواضع عن شخصٍ أو عن مؤسسةٍ أصبحت ضخامة البناء وارتفاعه هي أول أسباب انهياره... صح يا سيدي؟ لا صح لي عزمٌ إن أعتقتك يا نذير الشؤم... اقترب فقد حان أجلك!
غاضت الأضواء والدماء فى عروق الفتاح وفى عينيه... انهار المسكين إلى حجر صغير في الصخرة التي يقف عليها في مواجهة الملك الغضبان- الثقب وراءهُ طويل غائر... سقط العصفور مغشياً عليه فتدحرج داخل الثقب وأطبق الصمت... استعصى على النسر أن يدخل رأسه الكبير في الثقب وراء العصفور، كأنما هو مغارة صنعتها الأقدار لهذه الحادثة في الأزمان الجيولوجية الغابرة... أفاق «الفتاح» على حُمْرَةِ الأصيل فإذا المكان يلفه الصمت وقد ذهب النسر... انطلق يطوي الخوف والفضاء حتى انتهى إلى باب سليمان النبي صلى الله عليه، فأنهى إليه ما كان من أمره مع النسر، وكيف إنه سخر من النصيحة ورآى أنه حر في أفكاره!
هدأ سليمان من روع العصفور فعادت إليه سكينته، فسأل النبي:
أترى يا مولاي أنه محق فيما يزعم؟
أيها العصفور الطيب! في الدين حرية أفكار، ولكن ليس فيه حرية أخلاق! فلو أن هذا الملك المغرور أدرك حدود الأخلاق، لأدرك حدود الأفكار، ولعرف أن أخلاق المسلم تمنعه من تجاوز حدوده مع الناس فضلاً عن رب الناس، وهنا يعرف النعمة وحقوق واهبها ويعرف حدود تفكيره فيه،ومن ثم فلا يكون هذا الاستكبارُ الذي رأيت! اذهب إليه إذا كان الصباح، وسوف تجده في الموضع الذي علمت.
أنا؟... أنا أذهب إليه؟... أعوذ برب الناس... لقد كاد يطحنني لولا أن الله سلم!
هل ترى أن الله سيتخلى عنك؟
حاشا لله يا نبيّ الله!
اذهب إليه برسالتي هذه ففيها كلمة واحدة...» تواضع... وإلا»... هذا أمر النبي سليمان ملك الإنس والجن والطير!
ركب العصفور الريح حتى وقف على صخرة قرب الملك النسر... فأنهى إليه رسالة سليمان.
وإلا ماذا؟ ماذا يمكن أن يفعل بي سليمان؟
سوف يُرسِل عليك « الفِكْر»!
«الفكر»؟... وما «الفكر»؟
ستأتيكَ أنباؤه بعد حين... أما أنا فعائد إلى سيدي الملك نبي الله...!
شرد النسر ساعة يقلب الأمر، ويسأل عن هذا الذي يهدده به سليمان فالأنبياء كلهم صادقون لا محالة... « الفكر»... ما هو؟ ما شكله؟ ما لونه؟ من أين يهب؟ وماذا بعد؟ وكيف؟ لم يهتد إلى جواب... لا بد إذن من الاحتياط وإعلان الطوارئ، فالخطر مفتوح على كل الاحتمالات... قد ينقضّ من السماء كالصاعقة، وقد ينفجر من الأرض كالبركان، وقد يتفجر من الخوف كالطواعين!
أخذه من الهم ما الله به عليم، شعر لأول مرة بالعجز كأنما أحيط به، فالاحتمالات الخطرة أوسع من أن يتصورها... سلطان سليمان أوسع من قدرة جناحيه على التحليق، أومن قدرة مخالبه على الفتك!
ضربته أمواج الشك... قرر أن يتجنب معارك الصيد، فربما كان مقتله في جراحة بسيطة... لم يفلح صيد البغاث في ملء معدته الخاوية... أصابه الذبول والضعف... خاف أن يجيء الخطر ملتفاً بالرياح والعواصف... قرر أن يلزم الوكر... ضغطه القلق فأصبح ينتفض للهمس... يطرد النوم عن عينيه بالتقافز والغناء المهزوم... ضربه الهزال والثقل... جرب جناحيه فصعب عليه حملهما... بدا مهزوم الدفاع عاجزاً عن الإقلاع... ماذا لو وقع خطر مباغت؟ ابيضت عيناه من الحزن... فهولا يسمع خفق جناح ولا دبيب حشرة إلا اتخذ وضع القتال المفزوع... لا يكاد يخرج من الوكر حتى يتقهقر إليه!
تكسر ريشه وسقطت مخالبه وانهزمت منه هامة لا تعرف الانحناء... راح يهذي كالمحموم باسم عصفور «الفتاح» الذي حمل إليه كتاب «سليمان»... انتهى به الانتظار إلى قلق لا يعرف الانتظار! سمع حفيف بساط الريح يهبط على مقربة من وكره... لم يسعفه بصره... جاءه صوت النبي الملك: السلام على من كان ملكاً للكواسر! ما بالك أيها العظيم المتهالك؟ مالي أرى أطلال مملكة ضعفت عن خشاش الأرض وبغاث الطير؟ لقد هلكت يا نبي الله وأنا أدافع «الفكر» الذي أخبرني به « الفتـّاح «!! ليس هناك شيء اسمه «الفكر»، لقد رماني العصفور الملعون بهذا الوسواس فكان من همى وغمي ما ترى!!
أيها الملك البائس –ليس «الفكر» إلا ما أنت فيه! لقد أهلكت نفسك بالتفكير في «الفكر»، وهذا حسْبُ أمثالك من عقاب السماء- تخلى بك غرورُك وعِزُّ سلطانك عن خوف الله، فملأ الله قلبك بالفزع من كل شيء، ولو خفت الله وحده في نفسك وفى خلقه، لكانت لك الهيبة التي تؤمنك من كل شيء، لا تحلمْ من الآن براحة البال، فإن الخوف من المستقبل، والحياة في مزرعة الوساوس، قدر مكتوب عليك، وهم لا يجتمعان مع السكينة و راحة البال!
أستحلفك يا نبي الله، بالذي سخر لك الجن والإنس والطير فهم يوزعون، ألا سامحتني ونصحتني!
آه... الآن تؤمن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين... ومع ذلك... لا تثريب عليك، لقد استعذت بالغفور الودود... يغفر الله لك!
الآن فأعد قراءة الرسالة التي ألقاها إليك «الفتاح»، ثم خذ ما جاء فيها بقوة إنها وصفةٌ إلهية عليا لعباده، وبها يُديم عليهم نعمة الأمن والسلام والسكينة!
ستسمع عني يا نبي الله ما يسرك... فاسمح لى بأن أعتذر لأخى «الفتاح» فقد كان على حق!
وسترى إن شاء الله من الكرامة ومن حب الخلق فوق ما يسرُّك!