«على قارعة النبذ» للقاصة الكويتية تسنيم الحبيب
قراءة في قصة / ... دلالة مكثفة محمّلة بالمشاعر

من أعمال الفنان أمين الصيرفي


تلتقط هذه القصة لحظة زمنية فارقة في حياة البطل/ الشخصية الرئيسة في القصة، فزمنها السردي يدور في حدود ساعتين أو أقل، حيث يغادر البطل منزل الأسرة، وأيضا وطنه، مستقلا الطائرة، هاربا من واقع أليم عاشه، فقد تخطى الثلاثين، ولم يحقق أيا من أحلامه، لم يتزوج، لم يدخل الجامعة ويصبح دكتورا، الإحباط يلازمه، في حين نجد شخصية أخيه الناجحة الذي دخل كلية الطب، وارتدى المعطف الأبيض، أما هو فإن الجامعة لم يعرفها إلا عندما يوصل أخته إليها، إذا تعطلت سيارتها.
البطل الذي لم يتطرق السرد لاسمه، وهذا متعمد في رأيي، لأنه يعبر عن حالة الكثير من الشباب، الذين أضاعوا سنوات شبابهم، ولم يحقق شيئا يذكر في الجانب العملي/ الوظيفي، العلمي/ إنهاء الجامعة، الشخصي/ الظفر بحبيبة العمر، الذي نفهم من سياق القصة أنها على صلة قرابة من البطل، فقد قال والد حبيبته له: لا أستطيع أن أربط مصير ابنتي بمصيرك المجهول.
وتأتي نهاية القصة، بوصوله إلى المطار، من دون أن نعلم الجهة التي سيسافر إليها، وسبب سفره، وإنما يصلي صلاة الوداع على أرض الوطن.
هذه القصة مكتوبة ببلاغة عالية، فيمكن أن نسمّي أسلوب كاتبها بالبلاغة خادمة الحدث الدرامي، فالجملة مكثفة الدلالة، محملة بالمشاعر، ناقلة للحدث، مثل قوله: «يتجنب المرآة الكبيرة المصلوبة على الجدار المقابل»، فلفظة المصلوبة تحمل في ثناياها الألم (إشارة لصلب المسيح)، وكونه ذكر المرآة فهو دال على أنها تذكره بسنين عمره المرتسمة على وجهه، كذلك قوله: «ثلاثة عقود توالت عليه، وهو متمركز في نقطته الجدباء تلك»، فالنقطة الجدباء إشارة إلى عقم سني عمره، التي لم ينجز فيها شيئا ذا بال.
أرى أن القصة كانت تحتاج إلى المزيد من التعميق للشخصية المجهولة كثيرا للمتلقي، فلم نعلم أسباب فشله في دخوله الجامعة، وإلى سبب رحيله خارج الوطن، ولا علاقته بحبيبته، وأبعاد هذه العلاقة، ولا أسباب جدب حياته بشكل عام، خصوصا أنه يعيش أجواء عائلية مستقرة، وكل من حوله يحبه، وهو متعلق بابنة أخيه الطفلة، وهذا دليل على حبه للأطفال، ورغبته في حياة أسرية مثمرة.
لاشك أن القاصة تمتلك موهبة واضحة تتمثل في التقاط اللحظة القصصية المعبرة عن أزمة الشخصية، وهذه اللحظة جمع فيها المكان والزمان والإنسان، لتأتي القصة دالة على الحدث والأزمة والرؤية.
على قارعة النبذ
| تسنيم الحبيب |
«ها قد أتممت كل شيء»، ترد عليه ببحة يعرفها: «كل شيء؟».
يومئ من دون صوت، يحمل الحقيبة الأخيرة على ظهره، يركنها قرب المدخل مع صناديقه الحزينة، يستوثق من أوراقه، جواز سفره، يطوف بعينيه في كل الزوايا، كل أرجاء بيته/ وطنه... يتجنب المرآة الكبيرة المصلوبة على الجدار المقابل!
«تبدو مختلفا بالبنطال» تمرر إليه ملاحظتها، اعتاد الجميع رؤيته بـ ثوبه التقليدي الأبيض الفضفاض...
يحدث نفسه، « كل شيء يختلف، كل شيء يتغير... وأبقى أنا دوما... كما أنا».
ثلاثة عقود توالت عليه، وهو متمركز في نقطته الجدباء تلك، يستمطر الأماني فتحجم عنه، تصرخ به الأشياء:
«لستَ مثلهم، اختلافك ظاهر، جلي، لن يفيدك أن تنغمس بلونهم، فلونك الفاقع يصنمك في نقطتك... و لا سواها».
ثلاثة عقود، ما الذي تغير فيه؟ لاشيء سوى تنامي مساحات الغضب الذي بدأ يأكله، فيحيل رضاه إلى سخط، وغبطته إلى حسد، اتخذ قرار الرحيل هذا ليهرب منهم، من اختلافه، من نفسه التي باتت غريبة عنه.
يهبط عدة دركات، يجلس على مائدة الفطور، يلاقي أخاه الأوسط الذي تفوح من ثيابه الجديدة رائحة الحياة، يلمح الرداء الأبيض ينام براحة على ساعده، يمرر لأمهما كلمات تمنى كل يوم أن يمررها: «لن أعود باكرا، يبدو أن محاضرات كلية الطب أبدية!»
تبتسم: «الله يوفقك وأشوفك دكتور «تنزف ابتسامته هو... قبل عقد أو أكثر، حلم كثيرا بهذه الحياة النابضة، بهذا الرداء الأبيض، بـ أروقعة الجامعة التي لم يرها إلا لإيصال أخته حين تتعطل سيارتها، تبدو اليوم أكثر نأيا!
يأخذ رشفة من كوب الحليب المنكه بالهال والقرفة، قضمة من البيض المخفوق بالخضار، سيحن إلى هذا الطعم بالتأكيد، ينتبه إلى أخيه يمد كفه:
«تذهب سالما وترجع غانما»
يقولها بعفوية، هل تراه يدرك أبعادها؟
تشده ابنة أخيه من ياقة القميص، يحملها، تكاد الدمعة الحبيسة تفضحه، سيشتاق لكفيها الصغيرتين في منفاه، لو تمكن من العودة، لو تمكن... سيحضر لها الهدايا التي تمنى أن يهديها دوما، وعاقه عنها الراتب الأهزل. يدوي بوق السيارة، يحتضن أمه في محاولة لترميم الألم القديم، يخرج من الباب، يصيح به زوج أمه:
«هيا يا بني، ستتأخر عن الطائرة» يجلس قربه في سيارة العائلة التي ما انتمى لها يوما رغم تجانس الدم، يمعن في أسر دمعته، لوعته، تلفه أوشحة الجفاف.
تبتعد السيارة، تذوب الصور، بيته، الطريق الطويل، وجوه أخوته من أمه، تغرس المرارة مخالبها في لحم ذكرياته:
«أنت ولدنا... ولكن! لا أستطيع أن أربط ابنتي بمصيرك المجهول».
مصيره مجهول فعلا، غائم، كملامحه التي يتوارى عنها والتي تتحداه في مرآة السيارة، يسند رأسه على زجاج النافذة، يغيب مع التواشيح الحانية المتدفقة من المذياع:
إلهي... إلهي باسمك الأعظم وأسراره
إلهي... إلهي رد غريب الدار لدياره.
يحرقه الحنين، تتوقف السيارة، يهبط من علياء الوجع إلى ضجيج الواقع، يخبز من الوجوه الباسمة زاد الرحيل. النداء الأخير يرتفع ليصمه، تغسله دمعته العنيدة، يفرش روحه، ويصلي في أرض الوطن صلاة الوداع.
البطل الذي لم يتطرق السرد لاسمه، وهذا متعمد في رأيي، لأنه يعبر عن حالة الكثير من الشباب، الذين أضاعوا سنوات شبابهم، ولم يحقق شيئا يذكر في الجانب العملي/ الوظيفي، العلمي/ إنهاء الجامعة، الشخصي/ الظفر بحبيبة العمر، الذي نفهم من سياق القصة أنها على صلة قرابة من البطل، فقد قال والد حبيبته له: لا أستطيع أن أربط مصير ابنتي بمصيرك المجهول.
وتأتي نهاية القصة، بوصوله إلى المطار، من دون أن نعلم الجهة التي سيسافر إليها، وسبب سفره، وإنما يصلي صلاة الوداع على أرض الوطن.
هذه القصة مكتوبة ببلاغة عالية، فيمكن أن نسمّي أسلوب كاتبها بالبلاغة خادمة الحدث الدرامي، فالجملة مكثفة الدلالة، محملة بالمشاعر، ناقلة للحدث، مثل قوله: «يتجنب المرآة الكبيرة المصلوبة على الجدار المقابل»، فلفظة المصلوبة تحمل في ثناياها الألم (إشارة لصلب المسيح)، وكونه ذكر المرآة فهو دال على أنها تذكره بسنين عمره المرتسمة على وجهه، كذلك قوله: «ثلاثة عقود توالت عليه، وهو متمركز في نقطته الجدباء تلك»، فالنقطة الجدباء إشارة إلى عقم سني عمره، التي لم ينجز فيها شيئا ذا بال.
أرى أن القصة كانت تحتاج إلى المزيد من التعميق للشخصية المجهولة كثيرا للمتلقي، فلم نعلم أسباب فشله في دخوله الجامعة، وإلى سبب رحيله خارج الوطن، ولا علاقته بحبيبته، وأبعاد هذه العلاقة، ولا أسباب جدب حياته بشكل عام، خصوصا أنه يعيش أجواء عائلية مستقرة، وكل من حوله يحبه، وهو متعلق بابنة أخيه الطفلة، وهذا دليل على حبه للأطفال، ورغبته في حياة أسرية مثمرة.
لاشك أن القاصة تمتلك موهبة واضحة تتمثل في التقاط اللحظة القصصية المعبرة عن أزمة الشخصية، وهذه اللحظة جمع فيها المكان والزمان والإنسان، لتأتي القصة دالة على الحدث والأزمة والرؤية.
على قارعة النبذ
| تسنيم الحبيب |
«ها قد أتممت كل شيء»، ترد عليه ببحة يعرفها: «كل شيء؟».
يومئ من دون صوت، يحمل الحقيبة الأخيرة على ظهره، يركنها قرب المدخل مع صناديقه الحزينة، يستوثق من أوراقه، جواز سفره، يطوف بعينيه في كل الزوايا، كل أرجاء بيته/ وطنه... يتجنب المرآة الكبيرة المصلوبة على الجدار المقابل!
«تبدو مختلفا بالبنطال» تمرر إليه ملاحظتها، اعتاد الجميع رؤيته بـ ثوبه التقليدي الأبيض الفضفاض...
يحدث نفسه، « كل شيء يختلف، كل شيء يتغير... وأبقى أنا دوما... كما أنا».
ثلاثة عقود توالت عليه، وهو متمركز في نقطته الجدباء تلك، يستمطر الأماني فتحجم عنه، تصرخ به الأشياء:
«لستَ مثلهم، اختلافك ظاهر، جلي، لن يفيدك أن تنغمس بلونهم، فلونك الفاقع يصنمك في نقطتك... و لا سواها».
ثلاثة عقود، ما الذي تغير فيه؟ لاشيء سوى تنامي مساحات الغضب الذي بدأ يأكله، فيحيل رضاه إلى سخط، وغبطته إلى حسد، اتخذ قرار الرحيل هذا ليهرب منهم، من اختلافه، من نفسه التي باتت غريبة عنه.
يهبط عدة دركات، يجلس على مائدة الفطور، يلاقي أخاه الأوسط الذي تفوح من ثيابه الجديدة رائحة الحياة، يلمح الرداء الأبيض ينام براحة على ساعده، يمرر لأمهما كلمات تمنى كل يوم أن يمررها: «لن أعود باكرا، يبدو أن محاضرات كلية الطب أبدية!»
تبتسم: «الله يوفقك وأشوفك دكتور «تنزف ابتسامته هو... قبل عقد أو أكثر، حلم كثيرا بهذه الحياة النابضة، بهذا الرداء الأبيض، بـ أروقعة الجامعة التي لم يرها إلا لإيصال أخته حين تتعطل سيارتها، تبدو اليوم أكثر نأيا!
يأخذ رشفة من كوب الحليب المنكه بالهال والقرفة، قضمة من البيض المخفوق بالخضار، سيحن إلى هذا الطعم بالتأكيد، ينتبه إلى أخيه يمد كفه:
«تذهب سالما وترجع غانما»
يقولها بعفوية، هل تراه يدرك أبعادها؟
تشده ابنة أخيه من ياقة القميص، يحملها، تكاد الدمعة الحبيسة تفضحه، سيشتاق لكفيها الصغيرتين في منفاه، لو تمكن من العودة، لو تمكن... سيحضر لها الهدايا التي تمنى أن يهديها دوما، وعاقه عنها الراتب الأهزل. يدوي بوق السيارة، يحتضن أمه في محاولة لترميم الألم القديم، يخرج من الباب، يصيح به زوج أمه:
«هيا يا بني، ستتأخر عن الطائرة» يجلس قربه في سيارة العائلة التي ما انتمى لها يوما رغم تجانس الدم، يمعن في أسر دمعته، لوعته، تلفه أوشحة الجفاف.
تبتعد السيارة، تذوب الصور، بيته، الطريق الطويل، وجوه أخوته من أمه، تغرس المرارة مخالبها في لحم ذكرياته:
«أنت ولدنا... ولكن! لا أستطيع أن أربط ابنتي بمصيرك المجهول».
مصيره مجهول فعلا، غائم، كملامحه التي يتوارى عنها والتي تتحداه في مرآة السيارة، يسند رأسه على زجاج النافذة، يغيب مع التواشيح الحانية المتدفقة من المذياع:
إلهي... إلهي باسمك الأعظم وأسراره
إلهي... إلهي رد غريب الدار لدياره.
يحرقه الحنين، تتوقف السيارة، يهبط من علياء الوجع إلى ضجيج الواقع، يخبز من الوجوه الباسمة زاد الرحيل. النداء الأخير يرتفع ليصمه، تغسله دمعته العنيدة، يفرش روحه، ويصلي في أرض الوطن صلاة الوداع.