لله جنود لا تروها!

| u0641u0648u0632u064a u0635u0627u062fu0642* |
| فوزي صادق* |
تصغير
تكبير
اقترحت عليه زوجته أن يسافروا إلى الدولة المجاورة الشهيرة بالأسواق الشعبية، فهم لم يغادروا البلاد منذ عقد من الزمن، فأستخرج لعائلته جوازات جديدة، وأعطاهم وعداً بالسفر.

لكن عندما قرروا السفر واستعدوا لذلك، غير رأيه فجأة بإقناع من أصدقائه أن يذهب معهم، ويستطيع أن يسافر مع أبنائه وقتاً آخر، فانقلب على أسرته، وقرر السفر في صبيحة الإجازة الأسبوعية برفقة أصدقائه، فالتزمت زوجته المؤمنة الصبورة الصمت، واكتفت بتمتمة أثناء الصلاة «هداك الله وأصلحك» وبقي جبل الحزن مخيماً على قلبها الصغير حتى غادر البيت وعيون أبنائه مغرورقة بالدموع وهم ينظرون لأبيهم وهو يغادر البيت.

وصلوا بسيارته الجديدة احد المقاهي الشعبية بتلك الدولة بعد قيادة ربع يوم متواصلة، فقضوا وطرهم من الصلاة، وبينما هُم يتبادلون الحوار برفقة أكواب الشاي، وقف ستيني منتصبا أمامهم، وقال بلهجته العامية مبتسماً: «جوا شباب»! (أي على القوة) فردوا عليه التحية، وجلس معهم، وأخبرهم أن أصله من المنطقة التي قدموا منها، أي حاضرة الاحساء، فتقبلوه بسرعة، وأخبروه رغبتهم إكمال الحديث الشيق معه، ومع حلول المساء، عرض عليهم زيارته بعد أن شكوا له حالتهم، وأنهم لقوا صعوبة في إيجاد فندق أو شقة مفروشة تؤويهم ليلة واحدة، فقبلوا دعوته وساروا خلفه بسيارة بطل القصة، وبينما هم بالطريق، اختلفوا بين القبول بالعشاء فقط أو بالمبيت ليلة واحدة ببيته كما لمحوا له.

أدوا صلاة المغرب، واحتسوا الشاي مع بعض قطع الكعك، وكل هذا كان بفناء منزله، وبينما هم يتفاكهون الحديث، دخل المضيف بيته ثم خرج وقال: لي طلب صغير، فقالوا تفضل نعطيك عيوننا، فابتسم وشكرهم على حسن أخلاقهم، وقال: بما أنكم مغادرون الليلة، وعائدون إلى وطنكم، لدي أمانة وددت لو تأخذونها معكم إلى بيت أختي التي تسكن بمنطقتكم كما أخبرتموني ظهر هذا اليوم بالمسجد، فتبادلوا النظرات باستغراب وتهكم وكأنه لن يستضيفهم، وقاطع أحدهم تفكيرهم مترجلاً، نعم نعم، ولم لا! سنأخذها معنا، لكن ما الأمانة؟ فأمرهم بمساعدته، فدخلوا أربعتهم غرفة الضيوف، وإذا بهم يجدون كيسين كبيرين من الخيش، وهو يؤشر نحوهما بانكسار: هذه مؤونة لأختي الفقيرة لشهر رمضان المقبل، فقط خيشة من حب الهريس والأخرى لوبيا حمراء، فقال أحدهم، لكن يا عم: منذ أن خلقت لم أر كيساً بهذا الحجم الكبير حتى بمحال الجملة، وهل أختك تعيل قرية؟ فابتسم الرجل ابتسامة صفراء وقال: أحجام الخيش هنا تختلف عن بلادكم، فأقنعهم بما يريد، فوضعوا الكيسين بصندوق السيارة حتى نزلت من الخلف وقربت من الأرض.

غادروا بيته على مضض وهُم بحالة مزرية، فالتعب أعياهم وأخذ منهم مأخذا، فقد غادروا بيوتهم منذ الفجر، فقرروا العودة لوطنهم مع تعبهم، وما انقضت الساعات ودخلوا أشراف الاحساء حتى ذاقوا الأمرين والويلين والنارين! ان صح التعبير، فقد تأثرت السيارة من وزن الكيسين  الزائد، وتأخروا بمنطقة الحدود بعد ان شك بهم المفتش، وأن بالكيسين شيئا مريبا، مرة قال لهم يوجد بهما أشخاص من الجنس الناعم، ومرة قال ربما بضاعة مهربة، ومرة قال ربما دسستم بهما أسلحة، فأمر بإخراجهما كي يقطع الشك باليقين، وتعاونوا على إخراجهما، لكن بعد أن كسرت ظهورهم حتى أرجعوهما بالصندوق، ولا أستطيع أن أصف ماذا حصل للسيارة، فقد تصدع أسفلها وكاد يُخرق خزان الوقود، فكل من يمر بجوارهما بالطريق يرمي عليهم بإشارة بوجود شرار من نار بالأسفل، هذا غير الأصوات المزعجة، وكل هذا تم بسيارة صاحبنا الجديدة بطل القصة، والتي اشتراها منذ عهد قريب.

وصلوا أمام البيت المنشود عند صلاة الفجر، وكأنهم قد خرجوا من فج بحر لجيّ، قد انهكهم موجه وشرد تفكيرهم عصف ريحه، فلم يفتح لهم  الباب، والأصدقاء على عجلة من أمرهم إذ أخذ النوم منهم مأخذاً، فاتصل بطلنا بصاحب الخيش دولياً وأخبره أن يتصل ببيت أخته، فتم ذلك وفتح لهم الباب، وأمرتهم سيدة عجوز أن يدخلوا الكيسين بداخل البيت، ففعلوا وهم كارهون.

وصل الأصدقاء منازلهم وعادوا إلى مخادعهم بعد أن تنفسوا الصعداء من هم تلك الرحلة المتعبة، ولعنوا قرارهم بقبول زيارة ذاك الرجل، وبعد مرور أسبوعين، أكتشف صاحبنا ان سيارته تحتاج إلى صيانة بآلاف الريالات، وبينما هو جالس يحتسي الشاي مع زوجته وأبنائه، وكله ندم على فعلته، وقد أقسم انه لن يسافر من دونهم حتى لشبر واحد، فطلبت منه زوجته المؤمنة مبلغ مئة ريال لتسديد دين لسيدة اشترت منها بعض الحاجيات، فسألها ماذا اشتريت؟ فقالت: أخبرتني أختك أن فلانة المشهورة ببيع حاجيات رمضانية، قد أعلنت عن وصول دفعة جديدة من حب الهريس واللوبيا العراقي العالي الجودة والغالي السعر، فأعاد الزوج كوب الشاي على الأرض ويداه ترتجفان وعيناه جاحظتان وقال في قلبه «سامحني يارب».

* كاتب وروائي سعودي

[email protected]

fawzisadeq@
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي