قصة قصيرة / إصرار وظيفي

تصغير
تكبير
| انجود الحساوي |
كان يوما خيل لي بأنه قد حفر فيه الحظ أخدودا من الأماني في روحي المتحمسة، دخلت بارتباك واضح، وبابتسامة بلهاء. أتأمل العمالقة من حولي، وأنا كالقزم بجانبهم، تفوح مني الحداثة كعبق زنبق في قلعة قد مضى بها العمر. أجدني أمر بين دهاليز جدلية، وفوضى ورقية، أتلفت لألتقط صورا للمكان، فأحتفظ بها لأيامي المقبلة ولأحداث آتية ووقت مزحوم. اتبعه طواعية، متسائل أين سيذهب بي ذلك المحبط؟ الذي ظل طوال الطريق يلعن كل الظروف والأقدار التي أتت به ليعمل هنا، ويسبقني في حجز مقعده بهذه المؤسسة. تناسيت أن المح وجهه أو استرق النظر لهيئته، لم آبه. أصبحت كل آمالي بتلك اللحظة تتأرجح بين ماهية الوظيفة التي سأستلمها، ومقدار الراتب الشهري. هل سيحقق رغباتي كمالياتي وهدايا المناسبات التي أجامل بها أصدقائي!
ها نحن نصل أخيرا، يطلب مني أن انتظر لدقائق في غرفة السكرتارية لحينما يخبر المدير بوجودي. بدأت انسج وقت انتظاري بخيوط التفكير والتخطيط لبعض التغيرات في حياتي; ناقل اهتمامي بين العبث بهاتفي، والنظر لكل تفاصيل تلك الغرفة الفارغة من حولي. كان مجرد مكتب يغزوه الخواء في إحدى الزوايا، وبعض الكراسي التي توزعت بترتيب مهمل، وسجادة بدرجات اللون البني قد رمى بها أحدهم ليكمل فراغ هذه الغرفة.
بالرغم من كل ذلك الحماس المفروض على نفسي، شعرت بالتردد من فكرة عملي هنا. أحاول أن أهون الأمر على تطلعاتي، ربما الراتب المرتفع ومعارف والدي في هذه المؤسسة قد تشفع في إبعاد الضيق والحيرة عن قلبي. هاهي نصيحة صديق عمري جاسم، تلوح لي بالأفق بصوته المبحوح دائما; عندما حذرني يوما من العمل الروتيني في وظيفة اعتيادية، قد تأكل من وقتي وتهديني الضجر بطبق من ذهب. كان دائما ما يحاول أن يجذبني لعالمه الساحر; عالم الصفقات ويذكرني بأحلامنا المشتركة في أن ندير مؤسسة ضخمه تنافس بسباق السوق، لكني اخترت الطريق الأسهل أو ربما الأحمق.
تقتحم تلك الموظفة عالم أفكاري وتقطع حديثي الداخلي بسؤال سريع قذفته علي فجأة:
- وين جاسم؟
اصطدم بي سؤالها، ولم يتشربه استيعابي وانفجر بركان التساؤلات في لحظة! هل وصلها صوت ما يخالجني؟ أم انها تمتلك تلك الحاسة الخارقة، في سماع حديث العقل! وقت سؤالها كان أعجب من أن أعي بأنه محض صدفة. ثمة صمت امسك لساني، فأعادت السؤال علي مرة ثانية. اصطنعت التجاهل لسؤالها، في حين صرخت به للمرة الثالثة وهي تناظرني بحدة. التفت نحوها لأرى أنثى بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، تتغطى بشال ليلي مظلم، يتناثر عليه شعرها المموج ويتوسطه وجه قمري ذو عينين لامعتين وقوام معتدل. تذوقت جمالها للحظات في حين استنكرت صوتها العالي والغريب في الوقت نفسه، أخيرا أجبتها وسألتها في آن واحد:
- أي جاسم؟
- نعم
زأر بها من خارج الغرفة صوت كأني أعرفه، لكني لم أميزه انتظرت دخوله إلا انه لم يدخل! انشغلت فجأة بأسئلة اقتحمت اتزاني، وقلبت هدوئي رأسا على عقب أما تلك الدخيلة الجميلة التي مازالت تقلب بأوراقها وملفاتها التفتت نحوي من جديد لتتمتم «وجه جديد إذن»..
دلف ذلك الجاسم أخيرا كان هزيلا حانق البشرة وأقصر مما توقت. إنه يختلف عن صديقي تماما يحمل سيجارته بين أصابعه وينفث الغضب من أنفه. حين سألته تلك الموظفة :
- كيف كان الاجتماع؟
- كان الأسوأ على الإطلاق
- ...
- ماذا تتوقعين من اجتماع قد خطط له مسبقا وان الهدف من ورائه مجرد إصدار الأوامر على كبار الموظفين قبل صغارهم دون استشارتهم أو الأخذ بعين الاعتبار سنوات خبرتهم.
- صل على النبي، اشرب قليلا من الماء وهدئ من روعك ثم اخبرني بهدوء إلى أين وصلتم؟
- إلى لاشيء كانت مجرد حلقة فارغة يدورون بها من الوقوف على الأطلال إلى التسويف والتمني دون أي خطة واضحة.
صار فجأة ذلك التذمر وسباق الشكوى من كلا الطرفين موضوعاً جاذباً لأتابع كل تفاصيله، ما جعلني غير مرئي خلف دخان السخط والغضب الذي ملأ المكان. قد سيطرت علي في تلك اللحظة مشاعر الخوف والإحباط، تمنيت حينها بأني لم أدخل هذا المؤسسة وأيقنت بأني لو اتبعت جاسمي لكنت ربما في بيئة أفضل.
وجدت نفسي أقف لأخرج متملصا من جو الغرفة المشحون بالسلبية في حين يدا من ورائي أمسكت بكتفي لأرى صديقي المحبط يبارك ويزف لي بشرى قبولي في الوظيفة.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي