أماكن / تذكرة إلكترونية

جمال الغيطاني


| جمال الغيطاني |
الجمعة ... الخامسة صباحا أغادر البيت قاصدا السفر وعندي قلق مستجد... أرتب الأشياء بدقة قبل شروعي، خاصة جواز السفر والبطاقة وشهادة التأمين** الصحي والأوراق التي تضم المحاضرة التي سألقيها أو النصوص التي سأقرأها.
هذه المرة قلقي عظيم والسبب هو أنني لأول مرة أقصد المطار دون بطاقة طائرة، أخبرتني الجهة الداعية أنني سأجدها في المطار، بطاقة إلكترونية، أي أن رحلتي ورقمها مدونة على الحاسب الآلي للشركة.
أقدم الجواز ورقم البطاقة المرسل إليَّ بالبريد، وعندئذ تمضي الأمور، عندما وصلت قصدت مكتب الشركة، العدد قليل، دائما أجيء مبكرا، أضع احتمال تعطل المرور، تعطل السيارة، رغم تعدد الأسفار، فمازلت أتهيب الرحيل في أعماقي، لاحظت أن الطابور لا يتحرك، وكل لحظة تمر يتزايد عدد الواقفين، إذن.. في الأمر شيء، استفسرت وعلمت أن «الكمبيوتر واقع»، مصطلح جديد يعني أنه متعطل، إذن... وقع ما خشيته.
الجهاز متعطل واسمي على القوائم الإلكترونية، في هذه اللحظة أدركت نعمة الورق والتعامل بالورق، أن يكون معي شيء محسوس، أقبض عليه بيدي، أما اسم وبطاقة في الهواء، فهذا أمر محفوف بالمحاذير.. وها هو المحذور قد وقع، اتجهت إلى المضيفة، قدمت إليها الخطاب الذي وردني بالبريد الإلكتروني، بدت رقيقة، معنية بالأمر، قالت إنها ستذهب إلى المكتب الرئيس، فجأة صاحت إحدى زميلاتها: «اشتغل»
جلسن أمام المكاتب، بدأن ضغط الأزرار، فجأة صاحت إحداهن.
«وقع تاني...»
عاد الارتباك، سمعت من تقول إنهن سيعملن مانيوال «يدوي»، كنت في ضيق من أمري، هذا يعني تأخري، الاجتماع الأول للجنة التحكيم الدولية التي أشارك فيها لاختيار أفضل تحقيق أدبي على مستوى العالم الليلة، ربما يتعطل سفري كله، ما العمل وارتباطاتي المسبقة محددة بالدقيقة والساعة.
انقضت نحو ساعة، ازدحم الطابور، لم أفارق مكاني، كنت قريبا جدا من المضيفة التي راحت تطمئنني، لكنها لم تقل لي الحل، توترت الأعصاب ما بين «اشتغل»، «وقع تاني»، إلى أن تيسر الأمر وتحركت السيور التي تحمل الحقائب وأمسكت في يدي بالورقة التي سأدخل بها الطائرة.
شخصية مهمة جدا... الجمعة... الثامنة صباحا
ظاهرة لا مثيل لها في مطارات العالم، يتقدم من يرتدي ثيابا مدنية، فرد أمن أو موظف بجهة ما من المطار، ينادي على شخص معين بالاسم، وعندما يكتشفه يخرجه من الطابور، يصحبه لإنهاء إجراءاته بسرعة.
حدث منذ سنوات، أن كان أخي وصديقي وحيد حامد يقف في الطابور، وعندما تقدم أحدهم ونادى على محمد بك أي محمد بك المهم صحبه والتقط وحيد الاسم، وعندما وصل إلى ضابط الجوازات، قال إنه يشك في راكب معين، يعتقد أنه مهرب هيرويين.
وذكر الاسم الذي سمعه، ضابط الجوازات أبلغ ضابط المباحث، وبدأ تعقب الراكب المهم قبل خروجه من المطار، تم إيقافه، وكما توقع وحيد لم يكن مهما ولا حاجة، لكنه موظف كبير في جهة لا أذكرها.
غير أن مشكلة أخرى بدأت نتيجة الاتهام الذي وجهه وحيد، أثار أزمة تدخل اللواء رؤوف المناوي الذي كان يشغل مساعد وزير الداخلية للإعلام لفضها.
قال لي وحيد وقتئذ إن واقعنا مثل الكوميديا السوداء وتعامل من منطلق استفزازه، أثناء وقوفي لإنهاء آخر إجراءات السفر قبل ركوب الحافلة إلى الطائرة، تقدم جندي أمن، عرفت من الجهاز الذي يمسكه والذي يعلن عن هوية صاحبه رغم الملابس المدنية، تجاوز الطابور كله تتبعه سيدة ترتدي جاكت من الجلد الصناعي المرقط، استقلا عربة ملاكي انطلقت بهما إلى الطائرة.
عند وصولي إلى مطار شارل ديجول تابعت السيدة نفسها، لم يكن أحد في انتظارها، وكانت منتظمة في الطابور أمام مكتب الجوازات تتبع الإجراءات ممتثلة بكل أدب، ولم يتقدم منها أو من غيرها لا جندي ولا ضابط.
قناعي... الجمعة... الثانية ظهرا
لي طقوسي التي لا أحيد عنها، رغم وصولي إلى باريس متأخرا، ولم أنل حظي من النوم، فإنني وضعت حقيبتي في مقر إقامتي بالحي اللاتيني، واتجهت على الفور إلى متحف اللوفر، أول ما أقوم به زيارة قناعي، أقف أمامه بعض الوقت، ورغم الزحام فإنني أدخل مباشرة إلى المتحف عبر باب جانبي مخصص للصحافيين.
أبرز بطاقة صحافية دولية أستخرجها من النقابة مقابل عشرين جنيها، هذه البطاقة توفر لي مئات الجنيهات، تسمح لي بدخول جميع المعارض والمتاحف والمواقع الأثرية في جميع أنحاء العالم، كما أنها تمنحنا كصحافيين أولوية، بطاقة الصحافي في أوروبا والولايات المتحدة لها هيبة.
أعرف طريقي مباشرة إلى الجناح المصري، أمام المدخل تمثال لمصري قديم عندما رأته ابنتي لأول مرة منذ سنوات صاحت: «أنه يركع مثلنا، مثل المسلمين» أطلقتها أيضا على السجدة، مصري من فناني قرية دير المدينة «سنجم رع» يسجد بجوار نهر في حقول بارو «اسم الجنة عند المصريين القدماء»، أجتاز المدخل مباشرة إلى القسم الخاص بأدوات الموت، ما كان يستخدم من أجل التحنيط، في الفاترينة التي تتصدر القاعة معلق قناعي.
قناع من خشب، تماما لون بشرتي، ربما لا تتفق ملامحه معي، لكن النظرة، إنها نظرة نابعة مني، عينان تحدقان إلى اللانقطة، إلى حيث لا يمكن التحديد، إلى ما وراء كل مرئي، تلك نظرتي، هكذا يصير حالي عندما أتخلص من كل شائبة تتعلق بي، الشفتان مضمومتان.
تماما كما أفعل عندما يستغرقني حالي، دائما ألتقط صورة إلى جواره، أبادله النظر، يترسخ يقيني أنه يمت إليَّ بشكل ما، أعلق صورته في مكتبي، في بيتي، لقطة نجح محمد ابني في تجنب انعكاس زجاج الفاترينة، أبدو كأنني أقف في مرآة، للأقنعة عندي حديث طويل، إنه آخر ما كان يوضع فوق المومياء، إنها ملامح الراحل ترحل بدونه عبر الأزمنة التي لن يوجد فيها، قمة فن البورترية في العالم نجدها في أقنعة البورتريه الشهيرة، لكن ملامحي الداخلية وجدتها في هذا القناع الذي عاش صاحبه في فترة الأسرة الثامنة عشرة، أي منذ نحو ثلاثة آلاف وستمئة سنة، هل يمكن أن يكون لأحد الأجداد البعيدين، الذين فقدت الصلة بهم، لابد أن جدي كان يسعى في هذا العصر، في موضع ما، في مكان ما، لكل إنسان جدود، لكل إنسان أصل نائي، غير معروف، أتأمل وأتأمل وأكاد أنطق: من نكون؟ من؟، بعد زيارتي تلك يمكنني أن أبدأ برنامجي في باريس.
الجمعة ... الخامسة صباحا أغادر البيت قاصدا السفر وعندي قلق مستجد... أرتب الأشياء بدقة قبل شروعي، خاصة جواز السفر والبطاقة وشهادة التأمين** الصحي والأوراق التي تضم المحاضرة التي سألقيها أو النصوص التي سأقرأها.
هذه المرة قلقي عظيم والسبب هو أنني لأول مرة أقصد المطار دون بطاقة طائرة، أخبرتني الجهة الداعية أنني سأجدها في المطار، بطاقة إلكترونية، أي أن رحلتي ورقمها مدونة على الحاسب الآلي للشركة.
أقدم الجواز ورقم البطاقة المرسل إليَّ بالبريد، وعندئذ تمضي الأمور، عندما وصلت قصدت مكتب الشركة، العدد قليل، دائما أجيء مبكرا، أضع احتمال تعطل المرور، تعطل السيارة، رغم تعدد الأسفار، فمازلت أتهيب الرحيل في أعماقي، لاحظت أن الطابور لا يتحرك، وكل لحظة تمر يتزايد عدد الواقفين، إذن.. في الأمر شيء، استفسرت وعلمت أن «الكمبيوتر واقع»، مصطلح جديد يعني أنه متعطل، إذن... وقع ما خشيته.
الجهاز متعطل واسمي على القوائم الإلكترونية، في هذه اللحظة أدركت نعمة الورق والتعامل بالورق، أن يكون معي شيء محسوس، أقبض عليه بيدي، أما اسم وبطاقة في الهواء، فهذا أمر محفوف بالمحاذير.. وها هو المحذور قد وقع، اتجهت إلى المضيفة، قدمت إليها الخطاب الذي وردني بالبريد الإلكتروني، بدت رقيقة، معنية بالأمر، قالت إنها ستذهب إلى المكتب الرئيس، فجأة صاحت إحدى زميلاتها: «اشتغل»
جلسن أمام المكاتب، بدأن ضغط الأزرار، فجأة صاحت إحداهن.
«وقع تاني...»
عاد الارتباك، سمعت من تقول إنهن سيعملن مانيوال «يدوي»، كنت في ضيق من أمري، هذا يعني تأخري، الاجتماع الأول للجنة التحكيم الدولية التي أشارك فيها لاختيار أفضل تحقيق أدبي على مستوى العالم الليلة، ربما يتعطل سفري كله، ما العمل وارتباطاتي المسبقة محددة بالدقيقة والساعة.
انقضت نحو ساعة، ازدحم الطابور، لم أفارق مكاني، كنت قريبا جدا من المضيفة التي راحت تطمئنني، لكنها لم تقل لي الحل، توترت الأعصاب ما بين «اشتغل»، «وقع تاني»، إلى أن تيسر الأمر وتحركت السيور التي تحمل الحقائب وأمسكت في يدي بالورقة التي سأدخل بها الطائرة.
شخصية مهمة جدا... الجمعة... الثامنة صباحا
ظاهرة لا مثيل لها في مطارات العالم، يتقدم من يرتدي ثيابا مدنية، فرد أمن أو موظف بجهة ما من المطار، ينادي على شخص معين بالاسم، وعندما يكتشفه يخرجه من الطابور، يصحبه لإنهاء إجراءاته بسرعة.
حدث منذ سنوات، أن كان أخي وصديقي وحيد حامد يقف في الطابور، وعندما تقدم أحدهم ونادى على محمد بك أي محمد بك المهم صحبه والتقط وحيد الاسم، وعندما وصل إلى ضابط الجوازات، قال إنه يشك في راكب معين، يعتقد أنه مهرب هيرويين.
وذكر الاسم الذي سمعه، ضابط الجوازات أبلغ ضابط المباحث، وبدأ تعقب الراكب المهم قبل خروجه من المطار، تم إيقافه، وكما توقع وحيد لم يكن مهما ولا حاجة، لكنه موظف كبير في جهة لا أذكرها.
غير أن مشكلة أخرى بدأت نتيجة الاتهام الذي وجهه وحيد، أثار أزمة تدخل اللواء رؤوف المناوي الذي كان يشغل مساعد وزير الداخلية للإعلام لفضها.
قال لي وحيد وقتئذ إن واقعنا مثل الكوميديا السوداء وتعامل من منطلق استفزازه، أثناء وقوفي لإنهاء آخر إجراءات السفر قبل ركوب الحافلة إلى الطائرة، تقدم جندي أمن، عرفت من الجهاز الذي يمسكه والذي يعلن عن هوية صاحبه رغم الملابس المدنية، تجاوز الطابور كله تتبعه سيدة ترتدي جاكت من الجلد الصناعي المرقط، استقلا عربة ملاكي انطلقت بهما إلى الطائرة.
عند وصولي إلى مطار شارل ديجول تابعت السيدة نفسها، لم يكن أحد في انتظارها، وكانت منتظمة في الطابور أمام مكتب الجوازات تتبع الإجراءات ممتثلة بكل أدب، ولم يتقدم منها أو من غيرها لا جندي ولا ضابط.
قناعي... الجمعة... الثانية ظهرا
لي طقوسي التي لا أحيد عنها، رغم وصولي إلى باريس متأخرا، ولم أنل حظي من النوم، فإنني وضعت حقيبتي في مقر إقامتي بالحي اللاتيني، واتجهت على الفور إلى متحف اللوفر، أول ما أقوم به زيارة قناعي، أقف أمامه بعض الوقت، ورغم الزحام فإنني أدخل مباشرة إلى المتحف عبر باب جانبي مخصص للصحافيين.
أبرز بطاقة صحافية دولية أستخرجها من النقابة مقابل عشرين جنيها، هذه البطاقة توفر لي مئات الجنيهات، تسمح لي بدخول جميع المعارض والمتاحف والمواقع الأثرية في جميع أنحاء العالم، كما أنها تمنحنا كصحافيين أولوية، بطاقة الصحافي في أوروبا والولايات المتحدة لها هيبة.
أعرف طريقي مباشرة إلى الجناح المصري، أمام المدخل تمثال لمصري قديم عندما رأته ابنتي لأول مرة منذ سنوات صاحت: «أنه يركع مثلنا، مثل المسلمين» أطلقتها أيضا على السجدة، مصري من فناني قرية دير المدينة «سنجم رع» يسجد بجوار نهر في حقول بارو «اسم الجنة عند المصريين القدماء»، أجتاز المدخل مباشرة إلى القسم الخاص بأدوات الموت، ما كان يستخدم من أجل التحنيط، في الفاترينة التي تتصدر القاعة معلق قناعي.
قناع من خشب، تماما لون بشرتي، ربما لا تتفق ملامحه معي، لكن النظرة، إنها نظرة نابعة مني، عينان تحدقان إلى اللانقطة، إلى حيث لا يمكن التحديد، إلى ما وراء كل مرئي، تلك نظرتي، هكذا يصير حالي عندما أتخلص من كل شائبة تتعلق بي، الشفتان مضمومتان.
تماما كما أفعل عندما يستغرقني حالي، دائما ألتقط صورة إلى جواره، أبادله النظر، يترسخ يقيني أنه يمت إليَّ بشكل ما، أعلق صورته في مكتبي، في بيتي، لقطة نجح محمد ابني في تجنب انعكاس زجاج الفاترينة، أبدو كأنني أقف في مرآة، للأقنعة عندي حديث طويل، إنه آخر ما كان يوضع فوق المومياء، إنها ملامح الراحل ترحل بدونه عبر الأزمنة التي لن يوجد فيها، قمة فن البورترية في العالم نجدها في أقنعة البورتريه الشهيرة، لكن ملامحي الداخلية وجدتها في هذا القناع الذي عاش صاحبه في فترة الأسرة الثامنة عشرة، أي منذ نحو ثلاثة آلاف وستمئة سنة، هل يمكن أن يكون لأحد الأجداد البعيدين، الذين فقدت الصلة بهم، لابد أن جدي كان يسعى في هذا العصر، في موضع ما، في مكان ما، لكل إنسان جدود، لكل إنسان أصل نائي، غير معروف، أتأمل وأتأمل وأكاد أنطق: من نكون؟ من؟، بعد زيارتي تلك يمكنني أن أبدأ برنامجي في باريس.