أماكن / الرأس المقطوع في تورينو (2 من 2)

| u062cu0645u0627u0644 u0627u0644u063au064au0637u0627u0646u064a |
| جمال الغيطاني |
تصغير
تكبير
... هكذا أصبح المتنفذ الأول في مجال الآثار القديمة، حتى أن محمد علي قرر ألا يقدم أي شخص على التنقيب في مجال الآثار الا من خلال دروفيتي، وبذلك كان قادرا على عرقلة أي منافسين له، وبالتالي تمكن من اقتناء مجموعة ثمينة كان يتباهى بعرضها على زواره معلنا أنها ستزين متاحف باريس يوما.

لكن قدر لهذه المجموعة أن تستقر في ايطاليا، كان رجال الدين في فرنسا يعارضون شراء آثار قديمة ربما تهدم مرجعية الكتاب المقدس، في النهاية باع أول مجموعة لملك سردينيا مقابل أربعمئة ألف ليرة ايطالية، تساوي بسعر ذلك الزمان ألفا وثلاثمئة جنيه مصرى، وبسعر عصرنا الحالي نحو مئة وخمسين دولارا، أي والله مئة وخمسين دولارا بسعر الآن، تم توجيه المجموعة لتأسيس المتحف المصري في تورينو، أقام دروفيتي خلال سنواته الأخيرة في المدينة الايطالية، ثم بدأ يفقد عقله ودخل الى مستشفى الأمراض العقلية حيث قُضي به.

في الطابق الأول.. فوجئت بقاعتين فسيحتين خصصتا للتماثيل، أحد التماثيل لرمسيس الثاني مرتديا تاج الوجهين القبلي والبحري، عند قدمه حفر باسم دروفيتي، أصبح جزءا من تاريخ التمثال، أمام كل تمثال لافتة صغيرة توضح أنه جزء من مجموعة دروفيتي.

لم تعد تدهشني ضخامة التماثيل وثقل أوزانها، ولم أعد أتساءل، كيف خرجت من مصر بعد أن قرأت كتاب «اغتصاب مصر»، لكن ما أذهلني في تماثيلنا هنا جمالها، لقد جرى انتقاء دقيق وصارم لأجمل قطع النحت التي عرفتها حضارتنا القديمة.

توقفت طويلا أمام تمثال لم أر مثيلا له لرأس الملك تحتمس الثالث، المعروض هنا رأسه فقط، يرتدي التاج الأبيض المستطيل، تاج الوجه القبلي، التمثال على هيئة أوزير، ورغم أنني حرصت على اقتناء أكثر من صورة له، من خلال البطاقات والكتب التي تباع بالمكتبة الملحقة بالمتحف، فانني لم أجد صورة واحدة يمكن أن تقترب من الأصل ولو بقدر، تمثال للرأس منتزع بوحشية من الجسد الأصلي، معروض في القاعة المكتظة، من الحجر الجيري، لونه قريب جدا من لون البشرة الانسانية، في نظرته تنتابني مشاعر شتى، متخيلا وحدة هذه الابتسامة بعد انصراف الزائرين، واكتمال الفراغ، هل تبقى هكذا؟

الطابق الثاني... العالم الآخر

أتممت جولتي في الطابق الأرضي بزيارة معبد صغير من معابد النوبة، تم فكه وتركيبه في تورينو بعد مشاركة ايطاليا في عملية انقاذ آثار النوبة التي سبقت بناء السد العالي، وخصص طابق تحت الأرض لآثار النوبة، احتوى على تماثيل خشبية نادرة، ومحتويات كاملة لمقابر تم اكتشافها قبل غرق النوبة.

خصص الطابق الثاني للطقوس الجنائزية، أمضيت به معظم الوقت وعدت اليه صباح اليوم التالي لثراء محتوياته، وجمالها وتنوعها، يكفي أن أذكر أمثلة مما يحوي، النص الكامل لكتاب الموتى، لفافات طويلة من البردي مفرودة بطول الجدران ومغطاة بزجاج سميك، يحوي الكتاب نصوصا مكتوبة ورسوما توضيحية غاية في الدقة والرهافة، وهنا أيضا بردية تورينو المشهورة، أحد أهم مصادرنا لمعرفة ترتيب ملوك مصر الأقدمين ومثلها في الأهمية أبيدوس المحفورة على جدار المعبد الشهير الذي وصل الينا كاملا.

الآثار المعروضة هنا.. مجموعات من الأواني الجنائزية، والتماثيل واللوحات الجدارية التي تمثل مشاهد مما يجري في العالم الآخر.

المفاجأة كانت وجود مقبرة مصرية قديمة كاملة بجميع محتوياتها، انها مقبرة النبيل خا وزوجته، اكتشفت العام 1906 في دير المدينة بالأقصر، ويرجع تاريخها الى الأسرة الثامنة عشرة، أي الى ألف وأربعمئة سنة قبل الميلاد، المحتويات كاملة، بدءا من المومياء، الى الملابس المنسوجة من الكتان، الى الأثاث، الى الأوعية المستخدمة في الحياة، وتلك اللازمة للعالم الآخر، كذلك الطعام.

رأيت أرغفة مخبوزة محفوظة بحالة جيدة، عمرها ثلاثة آلاف وأربعمئة سنة، وبلح، وثمار دوم، لم أعرف محتويات كهذه، الا في مقبرة توت عنخ آمون التي تحتل محتوياتها طابقا كاملا في المتحف المصري بالقاهرة، غير أن الفارق شاسع، فمقبرة خا بمحتوياتها أقل تواضعا، لكنها مؤثرة بشكل عميق، لأنها تحوي أغراض أسرة عادية وتصور جميع جوانب الحياة اليومية.

أما محتويات مقبرة توت عنخ آمون، فكانت لملك مات شابا، فيها المجوهرات والعربات الحربية، والزهور، والأقنعة الذهبية.

فرق شاسع، لكن يتساوى كلاهما في أن المحتويات العادية وتلك الأكثر ثراء وصلت الينا وحيدة، غريبة، أما أصحابها فرحلوا، ملوكا كانوا أو نبلاء أو بشرا عاديين.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي