مقال / التدرُّب على الحرية...


| إبراهيم صموئيل |
أسوأ ما يُمكن أن يصل إليه المُستعبَد من نتيجة، ويعبّر عنها بعد تحرره، هو قوله: «أما كان من الأفضل لي أن أبقى تحت الاستعباد من أن أعاني ما أعانيه اليوم جراء سعيي ومجاهدتي لنيل حريتي»؟
ويزداد السوء شناعة حين يكون المستعبَد قد رزح تحت وطأة الاستعباد ردحاً من الزمن، فعانى ما عاناه، بكى وشكا، وتاق إلى اليوم الذي يصير فيه حرّاَ، وسيد نفسه، فإذ به حين يتحقق له ما صبا إليه، يأسف ويأسى، ويتمنى العودة إلى «حياة الدعة» التي كان عليها!
و«حياة الدعة» هنا لا تعني شيئاً سوى عودة الشاة- صاغرة هذه المرة- إلى أسنان الذئب الجائع! وإذا كان الأمر غريباً فإن تفسير غرابته تكمن في العذابات والتخبّط والتقلقل التي آلت إليها حاله بعد تحرره. بالأمس كانت الحياة «مستقرة» وفق نمط قاهر وظالم تكفّلت السنون بالاعتياد عليه، وباعتباره قدراً لا مفرّ منه، ولا يد للمستعبد في صنعه.
في «نمط» الحرية سيبدو التقلقل والعذاب من صنع يديّ المتحرر! جراء قراره هو، أو نتيجة حيرته فيما يمكن أن يفعله إزاء فضاء اتسع أمامه، أو بسبب من اختلافه مع متحررين آخرين يرون «أنماطاً» أخرى غير الذي يراه. في مصر، وتونس، وليبيا، اختلف المتحررون على أنماط الحياة التي يختارونها لأنفسهم بعد خلاصهم من الاستعباد.
و«الاختلاف» يبدو مقيتاً على الدوام إذا ما قيس «بالاتفاق»، أو على الأصح بالإذعان للحال التي وجد الناسُ أنفسَهم عليها. لا يد للسجناء في سَجنهم. اقتيدوا - جميعاً - رغماً عنهم، فأذعنوا لإرادة وقوة أعلى منهم وأقدر. في الحرية يحق لكل متحرر أن يدلي بدلوه الذي يشاء، فترى «الدلاء» وقد راحت تتصارع في ما بينها للتأكيد على صحة رؤية كل دلو منها!
من بين المتصارعين سنجد من يقول: لنعد إلى ما كنّا عليه!! أليس التوافق إذعاناً، أفضل من الاختلاف حرية؟! ها هنا يبدو أخطر ما في الربيع العربي. غير أنه «خطر» لابدَّ منه، العلّة فيه افتراض المنعتقين أن ما تاقوا إليه يقف خلف الباب بانتظارهم! وأنه جاهز مجهّز لاستقبالهم!
والحال أنه ليس كذلك.
ما يجري اليوم في بلدان الربيع العربي معقدٌ، وشائك، ومتداخل، وحمّال أوجه. وما يجري اليوم ملتبسٌ، ومجهول المآل، ومنذر بالويل، أو بالارتداد إلى الخلف، أو بالانزياح عن مسار المأمول. هذا، وأكثر منه، صحيح. غير أن الخطيئة الكبرى تكمن في الاعتقاد بأن الولادة إمّا أن تكون سهلة، طبيعية، من دون آلام.. وإمّا فالاستغناء عنها أفضل!
ليس ما يجري الآن سوى: التدرّب على الحرية. التعرّف إليها، وتبيّن ملامحها، وشخصيتها. تعلّم كيفية التعامل معها، وحفظ أبجديتها التي كنّا نجهلها تماماً. وكذا تغيير أبجديتنا نحن التي تعفّنت في الأسر، وتفتّت في الأسر، وشاخت في الأسر. أبجديتنا التي خلت سوى من المرارات والشكوى والظلم و... التوق.
والآن، كيف لنا ألا نخطئ في استخدام لغة لم نعهدها من قبل؟! كيف لنا ألا نتعثّر ونقع، المرة بعد المرة، ونحن نحاول الركض بطلاقة. الركض وقد كنّا مكبّلي الأطراف لسنوات وسنوات؟! كيف لأعيننا أن تبصر الطريق وهي لم ترَ نوراً من قبل إلا في مناماتها؟! كيف لنا أن نستوي واقفين وقد تقوّست أعمارنا، جيلاً بعد جيل، تحت ثقل الاستعباد والإلغاء والإقصاء؟! ها نحن اليوم في بؤرة الضوء، في عين الشمس، في متّسع فضاء... يصعب أن نتبيّن الطريق من فورنا. يصعب أن نعرف الاتجاه الصحيح. بل يصعب أن نمشي إلا زحفاً، إلى أن نتدرب على الحرية، وتألف عيوننا ضوءها، وتنزاح، ولو قليلاً، كثافة العتمة من أرواحنا.
أسوأ ما يُمكن أن يصل إليه المُستعبَد من نتيجة، ويعبّر عنها بعد تحرره، هو قوله: «أما كان من الأفضل لي أن أبقى تحت الاستعباد من أن أعاني ما أعانيه اليوم جراء سعيي ومجاهدتي لنيل حريتي»؟
ويزداد السوء شناعة حين يكون المستعبَد قد رزح تحت وطأة الاستعباد ردحاً من الزمن، فعانى ما عاناه، بكى وشكا، وتاق إلى اليوم الذي يصير فيه حرّاَ، وسيد نفسه، فإذ به حين يتحقق له ما صبا إليه، يأسف ويأسى، ويتمنى العودة إلى «حياة الدعة» التي كان عليها!
و«حياة الدعة» هنا لا تعني شيئاً سوى عودة الشاة- صاغرة هذه المرة- إلى أسنان الذئب الجائع! وإذا كان الأمر غريباً فإن تفسير غرابته تكمن في العذابات والتخبّط والتقلقل التي آلت إليها حاله بعد تحرره. بالأمس كانت الحياة «مستقرة» وفق نمط قاهر وظالم تكفّلت السنون بالاعتياد عليه، وباعتباره قدراً لا مفرّ منه، ولا يد للمستعبد في صنعه.
في «نمط» الحرية سيبدو التقلقل والعذاب من صنع يديّ المتحرر! جراء قراره هو، أو نتيجة حيرته فيما يمكن أن يفعله إزاء فضاء اتسع أمامه، أو بسبب من اختلافه مع متحررين آخرين يرون «أنماطاً» أخرى غير الذي يراه. في مصر، وتونس، وليبيا، اختلف المتحررون على أنماط الحياة التي يختارونها لأنفسهم بعد خلاصهم من الاستعباد.
و«الاختلاف» يبدو مقيتاً على الدوام إذا ما قيس «بالاتفاق»، أو على الأصح بالإذعان للحال التي وجد الناسُ أنفسَهم عليها. لا يد للسجناء في سَجنهم. اقتيدوا - جميعاً - رغماً عنهم، فأذعنوا لإرادة وقوة أعلى منهم وأقدر. في الحرية يحق لكل متحرر أن يدلي بدلوه الذي يشاء، فترى «الدلاء» وقد راحت تتصارع في ما بينها للتأكيد على صحة رؤية كل دلو منها!
من بين المتصارعين سنجد من يقول: لنعد إلى ما كنّا عليه!! أليس التوافق إذعاناً، أفضل من الاختلاف حرية؟! ها هنا يبدو أخطر ما في الربيع العربي. غير أنه «خطر» لابدَّ منه، العلّة فيه افتراض المنعتقين أن ما تاقوا إليه يقف خلف الباب بانتظارهم! وأنه جاهز مجهّز لاستقبالهم!
والحال أنه ليس كذلك.
ما يجري اليوم في بلدان الربيع العربي معقدٌ، وشائك، ومتداخل، وحمّال أوجه. وما يجري اليوم ملتبسٌ، ومجهول المآل، ومنذر بالويل، أو بالارتداد إلى الخلف، أو بالانزياح عن مسار المأمول. هذا، وأكثر منه، صحيح. غير أن الخطيئة الكبرى تكمن في الاعتقاد بأن الولادة إمّا أن تكون سهلة، طبيعية، من دون آلام.. وإمّا فالاستغناء عنها أفضل!
ليس ما يجري الآن سوى: التدرّب على الحرية. التعرّف إليها، وتبيّن ملامحها، وشخصيتها. تعلّم كيفية التعامل معها، وحفظ أبجديتها التي كنّا نجهلها تماماً. وكذا تغيير أبجديتنا نحن التي تعفّنت في الأسر، وتفتّت في الأسر، وشاخت في الأسر. أبجديتنا التي خلت سوى من المرارات والشكوى والظلم و... التوق.
والآن، كيف لنا ألا نخطئ في استخدام لغة لم نعهدها من قبل؟! كيف لنا ألا نتعثّر ونقع، المرة بعد المرة، ونحن نحاول الركض بطلاقة. الركض وقد كنّا مكبّلي الأطراف لسنوات وسنوات؟! كيف لأعيننا أن تبصر الطريق وهي لم ترَ نوراً من قبل إلا في مناماتها؟! كيف لنا أن نستوي واقفين وقد تقوّست أعمارنا، جيلاً بعد جيل، تحت ثقل الاستعباد والإلغاء والإقصاء؟! ها نحن اليوم في بؤرة الضوء، في عين الشمس، في متّسع فضاء... يصعب أن نتبيّن الطريق من فورنا. يصعب أن نعرف الاتجاه الصحيح. بل يصعب أن نمشي إلا زحفاً، إلى أن نتدرب على الحرية، وتألف عيوننا ضوءها، وتنزاح، ولو قليلاً، كثافة العتمة من أرواحنا.